تناقلت فضائيات وصحف أن أهل الأنبار ينوون جعل محافظتهم إقليماً مستقلاً عن العراق، بعضهم هول الأمر فصوره وكأن الأنباريين سيعلنون غداً دولتهم الوطنية المستقلة، ويسارعون إلى الأمم المتحدة لتقديم طلب عضويتها لتكون دولة الأنبار أول عضو فيها بعد دولة جنوب السودان! وإن العراق ذا الحمل الكاذب سيلد ،في ليلة واحدة 18 دولة!
وجرى تهييج العشائر في الأنبار وفق هذا السياق المثير، بين مؤيد ومعارض، وكأن ثمة قوى مجهولة تعد حرباً أهلية بين أبنائها اللذين لم يتعافوا بعد مما أنزلته القاعدة بهم من آلام وكوارث، حيث لا يوجد بيت اليوم في الأنبار لم يفقد واحداً أو أكثر من أبنائه أو أحبته!

لا يسع من يعرف أهل الأنبار إلا أن يسأل، أيعقل أنهم يطالبون بالانفصال عن العراق؟ وهم الذين كان العراق على رحابته يضيق بحلمهم، فتطلعوا إلى وطنهم الأكبر الممتد من المحيط إلى الخليج! فعرفوا بنزعتهم القومية الحادة،وقد برزت من بينهم شخصيات تزعمت الحركة الوحدوية في العراق,وقامت بانقلابات دموية معروفة لذلك (عبد السلام عارف وشقيقه عبد الرحمن عارف، وعارف عبد الرزاق،وإبراهيم الداود وغيرهم)!
وشخصيات أخرى حلمت بعراق اشتراكي موحد يكون جزءاً من منظومة أممية عالمية: عزيز شريف وعامر عبد الله وثابت حبيب العاني،وعبد الرحيم شريف، وثمة شخصيات منه عملت في سوريا من اجل وحدته مع الدول العربية : مثل يوسف زعين، ابن مدينة عانة البعثي، الذي صار أوائل السبعينيان رئيساً لوزراء سوريا!

ومن الأنبار برز أدباء ومفكرون صاغوا تراث العراق وأدبه وفنه ضمائرهم، وساهموا هم في ثقافته وحضارته: عبد الفتاح إبراهيم، حسين جميل، حسام الآلوسي، الفنان نوري الراوي ومدني صالح ويوسف نمر ذياب، مهدي الحنتوش، والقائمة تطول!

الأنبار قدمت مدينة عانة بكل ما تحمل من ذكريات ساكنيها ونخيلهم وقبور ذويهم وأسلافهم، أضحية من اجل الماء لوسط وجنوب العراق، حين محيت عن الوجود مغمورة بمياه سد حديثة! دون أن يتحدث أهلها بمنة، أو فضل في ذلك على أحد!

فهل يمكن لتربة كهذه أن تنبت فيها دعوة للانفصال والتقوقع أو الانطواء على حدود دويلة تشكل أكثر من تسعين بالمئة من مساحتها الكبيرة صحراء بادية الشام؟

لا يمكن لأناس زاخرة أرواحهم بحب العراق وأسرته العربية الكبيرة أن يفكروا بالانسلاخ عنه!

فهم إذا لم يحتسبوا الجانب الوجداني والعاطفي لا بد أنهم سألوا أنفسهم؟ هل ستكون الأنبار بعد انفصالها أفضل، أم أسوأ؟
هل ستضمن أن لا تكون أكثريتها في ذل من تسلط أقليتها الغنية المتنفذة أو الفاسدة أيضاً؟ هل ستضمن أن تجد طريق التنمية والتطور والازدهار، لا طريق الظلام والتخلف والرجعية أيضاً؟ وإذا افترضنا أنهم أفلحوا في اقتسام موارد العراق، كيف سيقتسمون تاريخ العراق وضميره وتراثه وروحه ؟ كيف سيقتسمون المتحف الوطني مثلا؟ هل سيفصلون انتماءهم لأصالة العراق الممتدة لسبعة آلاف سنة عن انتمائهم لقبائلهم وعشائرهم القادمة من الجزيرة العربية مع الفتح الإسلامي للعراق؟
لا بد أن هناك خطأ ما، سوء فهم، وربما سوء نوايا وأهدافاً شريرة هنا أو هناك!

ولم يلبث الأمر أن تكشف على حقيقته!

فبعد أن وجد مجلس المحافظة طلباته ومناشداته للحاكمين في بغداد تقابل بالتجاهل والإهمال، ويئس من محاولاته للتواصل معهم وراء أبوابهم المغلقة قرر أن يستعمل حقه الدستوري ويعمل على تحويل محافظته إلى إقليم!

وهذا حق كفله له الدستور. فالمادة 115 منه تنص: يحق لكل محافظة أو أكثر تكوين إقليم بناءً على طلب الاستفتاء عليه. والمادة 117 تنص: يخصص للأقاليم والمحافظات حصة عادلة من الإيرادات المحصلة اتحادياً تكفي للقيام بأعبائها ومسؤولياتها، مع الأخذ بالاعتبار مواردها وحاجاتها ونسبة السكان فيها.

تحدث الحلبوسي، رئيس مجلس محافظة الأنبار لإحدى الفضائيات قائلاً: نحن وطنيون، ولا نسمح لأحد بان يزايد علينا في الوطنية، ولكن محافظتنا أهملت كثيراً، ووقع عليها ظلم كبير، فهي لا تمنح سوى مائتي مليون دولار لمشاريعها الإنمائية وهي أقل من حصتها واستحقاقها بكثير جدا، ولا يقبل من أبنائها في الكليات العسكرية والشرطة سوى ستة طلاب في السنة، ولا يسمح لها بإنشاء مطار خاص بها كباقي المحافظات، ويجري التجاوز على حدودها من جهة بغداد والشرق والجنوب، وتتعرض لتحرش طائفي في بعض تراثها ومقابرها، وأهلها يتعرضون بما يشبه المداهمات لقوات عسكرية تأتي من بغداد والمحافظات الأخرى بمهمات أمنية وكثيراً ما تخلف قتلى أبرياء ..إلخ...

وقد حدثني رجل من الأنبار أعرفه منذ فترة طويلة، وأثق بما يقول: لا نستطيع تمشية أية معاملة لنا في دوائر بغداد ما لم يتوسط لنا فيها شخص من حزب الدعوة أو من الأحزاب الكردية المتنفذة لقاء عمولة، وقد صار اسم الأنبار هناك مرادفاً للإرهابي، وبصبغة البعث جرى حرق الآلاف من أهل الأنبار، بل صاروا ينظرون لنا كأجانب جئنا مع القاعدة فنقابل بالنبذ والاحتقار، بينما يحتضن الإيراني ويقدر، ويعامل كسيد!

الضجة ما تزال تتصاعد، ثمة من أخذ يستعيد كلام المالكي الذي لا يخلو من تهديد (إن الحديث عن الأقاليم قد يجعل الدم يصل إلى الركاب). ترى إذا كان تنفيذ النص يفجر الدم إلى الركاب، لماذا لم يفجره حينما دون وثبت في الدستور؟ هل هذا النص مجرد حلية مزيفة على صدر هذا الدستور العليل المتهالك أصلاً؟
لماذا يريد المالكي من الناس أن تتنازل عن حقها في الدستور، وهو الذي ناضل بضراوة من أجل النص الدستوري المتعلق بمعنى الكتلة الفائزة حتى صدر شرح من المحكمة الاتحادية يتوافق ورغباته؟

من المنفصل فعلاً ؟ الأنبار بحاجاتها الكثيرة وجراحاتها الأليمة؟ أم بغداد المستغرقة بصراعات الكتل السياسية على ولائم السلطة الدسمة، وكراسيها الذهبية؟

من الواضح أن ما يحدث في الأنبار والبصرة والناصرية ومحافظات الجنوب والوسط وربما قريبا الشمال من تململ ونفاذ صبر وتطلع لتكوين أقاليم خاصة هو أبعد من مجرد ممارسة حق دستوري لهم، إنه تعبير عن أزمة الدولة الحالية، أزمة فكر وأخلاق وضمير يصر القائمون على الدولة عدم مقاربتها خوفاً من أن يظهروا كم هم مفلسون منها بقدر ما صاروا مليونيرات في البنوك!

الدولة اليوم مخلخلة متهرئة ينخرها الفساد، تهيمن عليها طغمة دينية طائفية متخلفة متحالفة مع الشوفينية الكردية، وأمراء الحرب الأكراد، يتغلغل فيها وبرضاها وتسترها نفوذ إيراني شرس وفتاك يتسع يوما بعد يوم، خاصة مع اقتراب رحيل الأمريكان!

واليوم تقف هذه الدولة عارية مفضوحة تماماً وقد تكشف عجزها عن أدراك عوز الناس وهمومهم في هذه المحافظات والعمل بشكل جدي على حلها، رجالها منهمكون بتثبيت مواقعهم الحزبية، والبقاء في السلطة لحقب قادمة، وصناعة دكتاتورهم المقبل! والانشغال في صراعات مع الأحزاب الأخرى حتى داخل الطائفة الواحدة في سبيل ذلك! ما جعل الإنسان في هذه المحافظات يحس بالاغتراب في وطنه، فيبحث عن مخرج آخر!

بغداد اليوم هي التي انفصلت عن الأنبار والبصرة والناصرية وميسان وواسط والموصل وكل بقعة في العراق لتدور في فلك هؤلاء الرجال والنساء الذين لا يريدون أن يشعروا بالمسؤولية، ولا يأخذوا العبرة لا من دروس الماضي ولا من دروس الحاضر التي تتفجر في سوريا وليبيا ومصر وتونس، إنهم منتشون بكلمات إطراء زائفة غبية من السفيرين الأمريكي والبريطاني! وهذان السفيران هما بحاجة لمن يقيم عملهما الأكثر سوءاً، والذي ساهم في هذا الخراب والتفكك والتداعي في بنية العراق!

إذا لم تحل أزمة بغداد التي هي مرض عضال، فمن العبث البحث عن حل في المحافظات!
وذنوب حكام بغداد لا ينبغي أن تلقي على كاهل موظفي وأهالي المحافظات!
قبل أيام ردد أحد أصدقائي في الأنبار من الداعين للإقليم:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون هم!
قلت له لا تنس، إن هذا البيت هو للمتنبي، وهو من أهل الكوفة، وسوف لن يكون شاعركم، إذا انضويتم تحت علم دولة الأنبار!
قال ضاحكاً:
ـ اطمئن لا علم للأنبار غير علم العراق، ولكن من حقنا أن نختار من يحكمنا من غير هؤلاء الذين كان المتنبي يقصدهم أيضاً حين قال:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها وقد بشمن وما تفنى العناقيد!