أن الذي يبدو بأن العرب مهووسون فعلا ً بنظرية المؤامرة في كل شيء، حتى في الدراما التي تقدم في التلفزيون العربي. فقبل فترة ليست بالبعيدة وصلني أيميل عن الصحافي والكاتب الفرنسي بيرنارد هنري ليفي مع صور تجمعه بقيادات سياسية وعسكرية ثورية في مختلف أنحاء العالم، من جبال أفغانستان وكردستان العراق إلى البوسنة وسهول السودان وأخيرا ً ساحة التحرير في مصر وبنغازي ومصراته، دعما ً للثوار العرب ضد أنظمتهم. بل كتبت الصحافة العربية عن دور هذا الرجل في دعم الثوار من خلال إلقاء الخطب و عقد المؤتمرات من أجل ذلك. لقد صور الإعلام الرسمي العربي هذا الصحفي الفرنسي والذي ينتمي إلى أصول يهودية على إنه مفجر الثورات في العالم العربي بهدف تفكيك الأنظمة العربية لمصلحة إسرائيل. لم يكن هذا الخبر إلا محاولة للإلتفاف على الثورات العربية من قبل الأنظمة الحاكمة وبعض التيارات السلفية في المنطقة. فليس هناك جديد في ذلك، فالسيد بيرنارد يدافع عن مصالحه وعقيدته في محاربة التيارات الإسلامية المتطرفة من خلال التضييق عليها، وهو يحاول دعم حركات التحرر في العالم العربي بعد أن حارب الإشتراكية سابقا ً لمصلحة الليبرالية. فليست مشكلة الثوار أن تلتقي مصالح بيرنارد مع ما يطمحون إليه وهذا لايعني بأي حال من الأحوال بأن بيرنار يستخدمهم. المشكلة الحقيقة هي حينما يتحول السيد بيرنارد إلى الدراما العربية تحت أسم عبد الله أبن سبأ، تلك الشخصية الغريبة العجيبة في المسلسل الرمضاني الحسن والحسين.

يحتدم النقاش هذه الأيام حول السماح من عدمه بعرض مسلسل الحسن والحسين على شاشات الفضائيات مع وجود فتاوى تحرم عرض المسلسل بحجة تجسيد شخصيات مقدسة. يذكرني ذلك بمثل عراقي قديم يقول (عايف أمه وأبوه ولاحك مرة أبوه)، أي تارك أمه وأبوه ولاحق أمرأة أبوه يطلب منها حق الوالدين. لايختلف حال مثقفينا وفقهائنا عن مغزى هذا المثل، فهم تركوا الموضوع الأصلي وهو كيف يمكن أن تقدم رواية تاريخية فيها الكثير من اللغط والأختلاف بالآراء، بل وإختلاف في سرد الحقائق لأغراض سياسية، على شاشات التلفزيون في مرحلة حرجة من التنازع السياسي بأوجه طائفية مقيته. فهم تركوا المضمون كعادتهم وإهتموا بالشكل الذي سيظهر عليه الصحابة في التلفزيون. أن مشاهدة حلقات قليلة من المسلسل يعطي المشاهد إنطباعا ً عن مدى إستخفاف من قدم المسلسل بعقول المشاهدين العرب وذلك لسذاجة وسطحية الرواية المقدمة عن تلك الفترة. هي بالنسبة لي ليست أكثر من عمل فني يقدم لأطفال في العاشرة من العمر من أجل إعطائم صورة ناصعة البياض عن التاريخ، ولكن ماها كذا تورد الأبل ياسادتي الكرام.

أن تعطي رأيك بالتاريخ وتقول هذا رأيي فذلك لاغبار عليه، ولكن، أن تزور الحقائق التاريخية وتقدم رواية مفبركة عن التاريخ لأغراض سياسية فهذه خيانة للأمانة التاريخية والفنية وغش واضح للمشاهد الذي هو في غاية الذكاء لكشف ذلك. لقد تناسى كاتب الرواية بأن هناك ظروف موضوعية أدت لخروج كثير من المسلمين، ومنهم صحابة لرسول الله، على الخليفة الثالث عثمان بن عفان لعزله عن منصب الخلافة. فسياسة الخليفة الثالث بتولية أقاربه وتسليطهم على رقاب العباد وسوء بطانته وسياسته المالية في تقسيم الثروة وسياسته الاجتماعية بالإنفتاح على مجموعة معينة دون أخرى، بالإضافة إلى ذلك الاتحولات الكبيرة التي حدثت في ذلك الوقت من دخول أقوام كثيرة للإسلام وإنفتاح المدينة على العالم الخارجي الذي أدى للتغير الديمغرافي فيها، أدت لنقمة قسم من المسلمين عليه. هذا لايعني بأن قسم من الثوار تحرك لأغراض سياسية أو شخصية أو من منطلق العصبية القبلية لتغيير أو قتل الخليفة، إذا مافهمنا بأن هناك كان صراع كبير بين بني أمية وبني هاشم تمتد جذوره لما قبل الإسلام، وصراع بين المهاجرين والأنصار على السلطة تعود جذوره لأيام سقيفة بني ساعدة. لماذا يصر الكاتب على تقديم الصحابة على أنهم متحدون ومتحابون ويد واحدة وكأنهم ملائكة منزلين متناسيا ً بأن القرآن وأحاديث النبي أشارت لوجود الكثير من المنافقين من بين من صحب النبي ورافقه. أضف إلى ذلك بأن الصحابة والتابعين قد تقاتلوا فيما بينهم في حروب كثيرة كحرب الجمل وصفين وكربلاء، فهم ليسوا ملائكة بل أناس عاديون يبحثون عن مصلحة من يمثلون عندما يمارسون السياسة.

لقد صور الكاتب أن هناك صراع بين أشرار، سماهم بالبغاة، وبين خيرين وأطياب يقفون بصف الخليفة عثمان. ولولا شفاعة أبو بكر لأبنه محمد لوصف هو اللآخر بالباغي ولكن الكاتب التف على ذلك بوصفه بأنه مضلل وله دوافع شخصية من قضية عزل الخليفة. كل هذه الجموع التي جائت من مختلف الأمصار لعزل الخليفة أو قتله يحركها رجل واحد أسمه أبن سبأ وهو يهودي يدعي الإسلام حسب الرواية المقدمة في المسلسل. فهناك مشاهد في المسلسل تشير إلى إتصال أبن سبأ بحاخامات اليهود من أجل بث الفرقة والخلاف بين المسلمين، أي أن هناك مؤامرة كبرى خلف كل الذي جرى من حروب في العالم الإسلامي. أي عقل يقبل هذا، وأي أسفاف بعقولنا فارحمونا يرحمكم الله، هذا إذا مافهمنا بأن عبد الله بن سبأ شخصية مختلف عليها بين المؤرخين وكل الروايات الواردة عنه جائت عن محدث أسمه سيف بن عمر وهو وضاع معروف. فمن المؤرخين من نفى وجود هذه الشخصية أصلا ً أو الكتاب كطه حسين ومنهم من قال إنه عمار بن ياسر بسبب تسميته بأبن السوداء.

لماذا لم يثر الكاتب بعض النقاط التاريخية المهمة أو تجاهلها وهي: لماذا لم يهب المسلمون في المدينة لنصرة الخليفة عثمان ورد الخارجين وهم لا يزيد عددهم عن ثلاثة الاف رجل، بالرغم من أن في المدينة يقطن أبناء عمومته والصحابة كعلي بن أبي طالب والزبير وطلحة. وهل طلب الخليفة فعلا ً عدم ردهم كما أشير في المسلسل، وإن حدث ذلك فعلا ً فلماذا طلب من معاوية النصرة بجيوش من الشام. لماذا تباطأ معاوية عن نصرة عثمان ولم ينجده. لماذا كانت أم المؤمنين تدعو (أقتلوا نعثلا ً فقد كفر). لماذا يقدم لنا التاريخ كما القائل أن سيدنا معاوية رضى الله عنه قتل سيدنا عدي بن حجر رضى الله عنه، وكأنهم تخاصموا على حذوة حصان ولم يقتل أحدهم الآخر ويصفيه سياسيا ً الم تكن تلك أسئلة مشروعة؟

هناك سؤال مهم لابد من طرحه في العصر الحالي وهو: لماذا يبث المسلسل في هذا الوقت المهم من ربيع الثورات العربية، ولماذا تقدم الرواية السلفية بإمتياز عن هذا الحدث التاريخي، إذا ما فهمنا بأن السلفية لهم موقف سلبي من تلك الثورات التي سموها دنيوية ولاترفع شعار أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله مع تحريمهم التام للخروج على الحاكم مهما كانت الظروف. لماذا تصرف الملايين على مسلسل كهذا يستنكر منطق الثورة ويقوضه من أساسه ويدعو الناس لإلتزام الصمت بالصبر أمام الحاكم وإن كان ظالما ً. هل وظفت الدراما إذا ً من أجل الدفاع عن الإنظمة العربية الفاسدة من خلال الإدعاء بأن الثوار ليسوا أكثر من خارجين عن القانون وبغاة تحركهم أيادي خارجية خفية في مؤامرة يهودية صهيونية لتفكيك العالم العربي متناسين الظروف الموضوعية، من فقر وجوع وإذلال وغياب الحريات، التي أدت للثورات ليتحول بيرنار إلى أبن سبأ القرن الواحد والعشرين.


[email protected]