على الرغم من أن الربيع العربي لم تتفتح أزهاره في الدول التي عاشته كمصر و تونس أو غيرها التي لم تحسم معركتها بعد فأن الغيوم بدأت بالتجمع في سماء تلك الدول مهددة بتحويل ذلك الربيع إلى خريف حقيقي على صعيدي السياسة و الاقتصاد معا ، فبعض دول الربيع تسير على حوافي الأزمة المعاشية بالفعل و لازالت الأسئلة تتكاثف حول مستقبل السياسات الاقتصادية التي ستتبعها النظم التي ستولد من هذا المخاض و على الرغم من أن الجواب على تلك الأسئلة لا يزال في حكم المجهول فأنه توجد بعض المؤشرات التي يمكن للمراقب أن يستهدي بها و أن يستشرف منها صورة المستقبل ولو بشكل أولي.

علينا اولا أن نوصف الشكل النمطي للسياسات الاقتصادية في دول الربيع قبل حدوث الانتفاضات الأخيرة و كما هي مرتسمة في ذهن مواطن تلك الدول و ليس كما هي في الواقع، و هذا التفريق مهم للغاية فالنخب السياسية و الاجتماعية ستحاول أن تبني واقعا مناقضا لما كان عليه الأمر فيما مضى كما فهمته هي ، واقع يقوم على تجنب كل السياسات و الممارسات الخاطئة التي رافقت مسيرة الحكومات السابقة و العمل على النقيض منها.. كما ينبغي أن نقر ابتداء بأنه إذا كانت هذه الانتفاضات العربية وليدة القهر و الاستبداد السياسي و الفردية فأنها و بنفس الدرجة وليدة المعاناة المعاشية و الفشل الاقتصادي و الإحباط المادي.

ينظر المواطن العربي إلى النظم التي اطيح بها على أنها نظم عملت لصالح النخب الحاكمة و اتسمت بقدر كبير من الفساد و سوء الإدارة و غياب المنظور الاستراتيجي في التنمية و أنها عملت للحكام و للأغنياء أكثر مما عملت للطبقات الفقيرة و المواطن العادي و أنها هي المسؤولة عن الفقر و البطالة و تردي الخدمات التي قاست بسببها ،غير أن هناك شريحة أخرى من المجتمع تتجاوز هذا التوصيف لتعتبر تلك النظم في شقها الاقتصادي نظما تبنت تحرير الاقتصاد و الانفتاح على الاقتصاديات العالمية و الاستثمار الأجنبي دونما ضوابط و دونما مراعاة للمصالح الوطنية ، و نجد أن هناك حنينا خفيا (يجد تعبيراته في بعض الأحيان من خلال بعض التصريحات و المواقف) للقطاع العام و لدور أكبر للدولة في ضبط و تسيير الاقتصاد مع نقد متزايد لفوضوية نظام السوق و إهماله للتنمية الحقيقية التي تصيب بعطاياها أوسع الشرائح الاجتماعية ،كما نجد في أوساط واسعة كراهية متأصلة لطبقة رجال الأعمال و كذلك للمستثمرين الأجانب مثل هذه الصورة النمطية في الأذهان و تلك التوجهات الجماهيرية قد لا تفرز في المستقبل بالضرورة نظما اشتراكية يلعب فيها القطاع العام دورا رئيسيا و يعاد فيه للدولة دورها التقليدي الذي مارسته في العقود الماضية ، لكن وجود مثل هذه النزعات العامة قد يشل يد الدولة و هي تحاول تشجيع قطاع الأعمال الوطني على الانخراط بصورة أكبر في عملية إحياء الاقتصاد كما ستجعل من تحرك الدولة لجلب الاستثمارات الخارجية أكثر صعوبة و بالطبع فأن هذا سيفاقم من حدة الأزمة الاقتصادية التي تواجهها تلك الدول.

من جهة أخرى ستعمل تلك التوجهات على إعاقة أي تعاون واسع مع المنظمات المالية الدولية كمنظمة التجارة العالمية و صندوق النقد و البنك الدوليين خصوصا إذا ترتب على مثل هذا التعاون اثمان محلية باهظة على المواطن أو نتج عنها قبول وصفات تلك المنظمات لإصلاح الاقتصاد مقابل منحها و مساعداتها.
علينا أن نضع نصب أعيننا بعض الحقائق الكبيرة التي تفرض علينا مراعاتها و نحن نتطرق لمثل هذا الموضوع الهام .

أول هذه الحقائق يتمثل في أنه لن يكون هناك حسم في مسائل الاقتصاد قبل أن تحسم مسائل السياسة و يتقرر من سيحكم في تلك الدول و ما هي الأيديولوجية التي يحملها و ما هو المنظور الاقتصادي الذي يتبناه بصورة مبدئية تشير أغلب التقديرات إلى أن القوى المرشحة للعب دور أكبر في الحياة السياسية القادمة لدول الربيع العربي هم الإسلاميون أولا تليهم بعض القوى الليبرالية و اليسارية غير المتجانسة و إذا جئنا إلى الإسلاميين و فكرهم الاقتصادي نجد أنه عبارة عن توجهات عامة غير تفصيلية مع تفضيل واضح لنظام الاقتصاد الحر و خبرة محدودة في إدارة الدولة و رغبة في تبني سياسات تجلب الشعبية على المدى القصير إما التيارات الأخرى فليست أحسن حالا فهي أيضا أبعد ما تكون عن امتلاك مواقف محددة و بارزة تجاه قضايا الاقتصاد و التنمية و ربما يقود مثل هذا الوصف إلى استنتاج مفاده أن إرضاء الشارع و المواطن العادي و تخفيف العبء عنه سيكون البوصلة الأساسية التي توجه قرارات و سياسات أولئك الحاكمين الجدد في مجال الاقتصاد، و بتعبير أخر فأن كسب الشعبية سيكون أصلا في التحرك الاقتصادي و هنا لابد من التنبيه إلى أن تجربة العديد من الدول اثبتت أنه لا أضر ولا أخطر على اقتصاديات الدول من الاستسلام للمطالب الشعبية و الفئوية التي قد تبدأ ولا تنتهي ، فهذا الانسياق للرغبات العامة يلغي مفهوم التوجه الاستراتيجي في بناء الاقتصاد و يرهن القرار الاقتصادي لرجل الشارع و يجعل تلبية المطالب الوقتية أصلا في اتخاذ القرار على حساب المصالح و الحسابات بعيدة المدى و في آخر المطاف يكتشف الحاكمون الذي أرادوا إرضاء الجماهير بأي ثمن بأنهم لم يبنوا اقتصادا ولا ارضوا مواطنا.

سوف يسعى الحاكمون الجدد سواء أكانوا أحزابا أو تيارات لكي يؤسسوا قاعدة اقتصادية و مادية لحكمهم و في ظل التنافس السياسي المحموم و المتوقع بين الإسلاميين و العلمانيين و محاولة كل طرف تثبيت ركائزه في السلطة سنجد محاولات لحيازة مواقع قوة اقتصادية لكي يستعان بها في التنافس السياسي و مثل هذه المحاولات ستزيد من حدة الصراع الاجتماعي كما ستطيح بمراكز قوة اقتصادية اخرى يحوز عليها المنافسون أو المحايدون الذين لا يسايرون التوجهات التي ستكون لها اليد العليا في إدارة الدولة ، كل هذه الصور ( في حال حدوثها ) قد تضعف مصداقية الدولة و تنفي عنها صفة الحياد الاجتماعي .

أن تأخر الربيع العربي في طرح ثماره ( على مستوى معيشة المواطن ) سيزيد من حدة الجدال الداخلي و إذا ما تفاقمت المعاناة في ظل الفوضى السياسية و الاجتماعية المتوقعة فأن هذا سينحت من صدقية التيارات التي قادت التغيير و يمنح نوعا من رد الاعتبار لمن تمت الاطاحة به ، و مثل هذه الظواهر لو حدثت سيجعل الحكام الجدد تحت ضغط أكبر لتبني السياسات الشعبية على حساب الاستراتيجيات و السياسات التنموية الصائبة على المدى البعيد.

سيكون من قبيل المغالطة ان نتوقع سخاء من الدول الغربية أو المنظمات الاقتصادية الدولية تجاه دول الربيع العربي لو تولى الحكم فيها مجموعات إسلامية أو قوى راديكالية ، و رغم أن الغرب يتخوف من ولا يتمنى انهيارا اقتصاديا يعقبه انتشار للفوضى و تصاعد للتطرف مع موجات نزوح و هجرة واسعة لأوروبا من هذه الدول ، إلا أن الغرب سيراقب المشهد عن كثب و هو يتوقع أن يؤدي الفشل الاقتصادي و ما يستتبعه من سخط شعبي إلى محاصرة التيارات الراديكالية في عقر دارها و التضييق عليها تمهيدا لألغاء خياراتها المتطرفة و دفعها إلى مواقع الاعتدال و الواقعية، و لسان حال هؤلاء يقول ...ها أنتم استلمتم السلطة و ملكتم الحكم و الدولة فأرونا ما أنتم فاعلين؟؟

بالتأكيد فأن إسقاط نظام حكم غير صالح هي عملية أسهل بكثير من بناء نظام صالح و إدارة كفؤة و هذا هو التحدي الذي تواجهه القوى و التيارات التي سوف يقدر لها أن تمسك بزمام الأمور في دول الربيع العربي فحساب الحقل ليس كحساب البيدر و الربيع الذي لا يزهر رخاء يدفع أصحابه إلى الزهد به سريعا.

وزير التخطيط و التعاون الإنمائي العراقي السابق