مر الربيع العربي بفترة سكون منذ النجاح السريع للثورتين التونسية والمصرية بالرغم من استمرار الثورات الشعبية في ليبيا وسوريا واليمن بفضل حماسة الشباب المتواصلة ليلا ونهارا طوال شهور عديدة، والسكون لم يكن اسبابه تعود الى الثورات المندلعة وانما الى هبوط التفاعل العربي والاقليمي والدولي مع تلك الصرخات الجماهيرية المنطلقة ضد أنظمتها المستبدة التي لا تريد ترك السلطة الا بسفك الدماء وذبح ابناء الشعب الذي رفع سلميا شعار quot;الشعب يريد اسقاط النظامquot;.
وأحد اسباب غياب التفاعل العربي مع الثورات كان الصمت المرسوم على الدول الخليجية، وخاصة تجاه ثورة الشعب السوري ضد نظام بشار الاسد، لا سيما وان الخليج لعب دورا رئيسيا في حشد التأييد السياسي للمجتمع الدولي للثوار في ليبيا ضد نظام معمر القذافي وكان لهذا الموقف الأثر البالغ في حماية الشعب الليبي من إبادة مؤكدة كان النظام ينوي تنفيذها باسلحته الثقيلة من مدافع ودبابات وطائرات للقضاء على الثورة.
ولكن الموقف الخليجي والعربي والدولي تجاه الثورة السورية اتخذ سكونا لعدة شهور دون ظهور علامات تأييد واضحة المعالم عدى الموقف التركي الذي سجل سبقا سياسيا تجاه الشعوب العربية حيث ندد مرات عديدة بما يرتكبه بشار الاسد من قتل وممارسات قمعية ودموية ضد المحتجين المدنيين السوريين.
والمؤسف ان صمت الموقف الخليجي رافقه سكوت عربي واقليمي ودولي تجاه ثورة السوريين المدنية والتي جوبهت بقوة عسكرية غاشمة من نظام دمشق بمختلف انواع الاسلحة الحربية الثقيلة وكأن المواجهة جبهة قتالية ساخنة مع طرف يملك جيشا محترفا بكل انواع الاسلحة بينما هو شعب اعزل يتعرض الى قمع وقتل وابادة امام سكوت وصمت رهيبين للمجتمع الدولي.
والموقف الجديد للمملكة العربية السعودية من خلال الكلمة الموجهة للملك عبدالله بن عبد العزيز الى الشعب السوري كسر طوق الصمت الذي أحيط بالثورة المدنية السورية وجدد وانعش تألقها التي كادت ان تهبط بفعل السكوت الدولي، وبحكمة متوقعة من العاهل السعودي شمر عن ساعديه بوقفة انسانية نبيلة مبينا ان ما يحدث في سوريا لا تقبل به المملكة وانها تقف مع اشقائها انطلاقا من مسؤوليتها التاريخية تجاه شعوب المنطقة، وأكد الملك عبدالله بوضوح لا لبس فيه ان ما يحدث في سوريا من قمع للمتظاهرين quot;لا تقبل به السعوديةquot; وquot;اكبر من ان تبرره الاسبابquot;، وطالب العاهل السعودي بوضوح تام بـquot;وقف آلة القتل وإراقة الدماءquot;، ودعا الاسد الى quot;تحكيم العقل قبل فوات الآوانquot; واجراء quot;وتفعيل اصلاحات شاملة سريعة لا تغلفها الوعود، بل يحققها الواقعquot;.
والكلمة التاريخية القيمة للعاهل الحكيم المقبل على اجراء اصلاحات في بنيان دولة المملكة تمشيا مع متطلبات الشعب السعودي وتزامنا مع المستجدات في حقوق الانسان على الساحتين الاقليمية والعالمية، حملت معاني واضحة لتحليل الواقع الراهن وما تتعرض له الثورات من اراقة دماء غير مبررة ومنها الثورة السورية، حيث اشار الملك عبدالله الى quot;تداعيات الاحداث والتي نتج منها تساقط أعداد كبيرة من الشهداء، الذين أُريقت دماؤهم، وأعداد اخرى من الجرحى والمصابينquot;، مؤكدًا بموقف حازم وانساني ان ذلك quot;ليس من الدين ولا من القيم والاخلاقquot;.
والرؤية السليمة التي طرحها الملك عبدالله في قراءة المجابهة العنيفة لبشار الاسد ونظامه مع الشعب السوري الاعزل الثائر وادانة سفك دماء المدنيين، حملت موقفا انسانيا نبيلا معللا ان quot;اراقة دماء الابرياء لأي أسباب ومبررات كانت، لن تجد لها مدخلاً مطمئنًا، يستطيع فيه العرب والمسلمون والعالم كله، أن يروا من خلالها بارقة أمل، إلا بتفعيل الحكمةquot;، الحكمة التي تصلح امور الشعب وتعيدها الى نصابها وتلبي مطالبه وتفعل من دوره وتضع حدا للاستبداد والطغيان، والحكمة التي تفعل اصلاحات حقيقية يستشعر منها الانسان الكرامة والعزة والكبرياء، وألا فان انكار الحكمة وتهميشها في الاستناد اليها للمعالجة والاصلاح ستؤدي الى ضياع وفوضى، وكما بينها العاهل فان التصدي للاوضاع تلزم الحكمة وألا فان الوضع quot;في مفترق طرق الله أعلم إلى أين يؤديquot;، والا كما وضحه الملك عبدالله فان حاضر ومستقبل سوريا quot;بين خيارين لا ثالث لهماquot;، والسلطة السياسية في دمشق quot;إما أن تختار بإرادتها الحكمة، أو أن تنجرف إلى أعماق الفوضى والضياع، لا سمح اللهquot;.
هذا الموقف الحازم للملك عبدالله بشأن الموقف في سوريا لوقف اراقة دماء الشعب الأعزل وتلبية مطالبه في التغيير والاصلاح في سبيل الحرية والكرامة، أتى في ظل استمرار المجابهة المستميتة التي ابداها السوريون ضد الاستخدام العنيف للقوة العسكرية الغاشمة من قبل نظام الاسد وتواصل قتل المدنيين يوميا كشهداء قربانا للثورة الاحتجاجية التي تحولت الى بركة متواصلة للدماء المهدورة بفعل الممارسات القمعية والدموية للاجهزة الأمنية والمخابراتية والقوة العسكرية للنظام المستبد المتربع على عرش سوريا منذ اربعين عاما.
ولاشك ان هذا الموقف الحكيم للمملكة السعودية ولملكها ولشعبها، وبهذا الوضوح التام للخيار بين الحكمة والفوضى، سيلعب دورا حاسما في حشد التأييد العربي والاقليمي والدولي لحماية الشعب السوري الأعزل للوقوف بجانب ثورته السلمية التي تنادي للاصلاح والتغيير والحرية والعيش بكرامة.
وما جاء في كلمة الملك عبدالله من استقراء ورؤية حكيمة حملت الكتير من المعاني والغايات: ابرزها ان الاستبداد والطغيان لا مستقبل لهما، وان الشعوب الثائرة بالاحتجاجات السلمية والمدنية تستعان بالحكمة لمعالجة وتلبية مطالبها، وان اراقة دماء الشعوب الحية جريمة ضد الانسانية لا يقبل بها ابدا، وان وضع المنطقة لا يقبل توجيهه نحو الفوضى، وان الممارسات القمعية للانظمة المستبدة لا يقبل بها، واخيرا ان الربيع العربي بخير، وان الملك عبدالله بدأ يدرك ان حماية هذا الربيع للثورات واجب انساني وفيه حكمة لتوجيه نحو بر الامان لصالح شعوب المنطقة لغرض ابعاده عن الفوضى والضياع.
لهذا نتقدم بتحية التقدير والعرفان بشجاعة الموقف الانساني النبيل للملك عبدالله بن عبدالعزيز، ولهذا النداء السياسي الحكيم للشعوب الثائرة وساسة الأنظمة في المنطقة للخيار بين الحكمة والفوضى من اجل وقف اراقة الدماء البريئة ومن أجل تلبية مطالب ثورة الاحتجاجات المدنية التي تشهدها الشرق الاوسط وشمال افريقيا بغية ارساء السلام والعيش بحرية وكرامة، ولابد ان نقر ان الربيع العربي كم كان تواقا لهذه الكلمة الطيبة التي استعاد بها حيويته وتألقه الانساني.
كاتب صحفي
[email protected]
التعليقات