عمانوئيل صديقي (المسيحي) لم يرسل لي كما هي عادته في أول أيام شهر رمضان رسالة على الجوال ليبارك لي بالشهر الفضيل ولكل أصدقائه المسلمين في مدينتنا، ما كان للأمر أن يكون غريباً فيما لو نعيش في سورية أحوالاً عادية.. ولو لم تكن هذه الأيام استثنائيةً نحتاج فيها أن نكون يداً واحدة للحفاظ على حالة التسامح التي تعودنا عليها نحن أبناء سورية.

وعندما التقينا قبل يومين باركني بالشهر الفضيل وأخبرني أنه سيمارس الطقس الرمضاني بالإفطار في بيتنا في أول أيام عطلته،وشرح لي سبب عدم المباركة لمعظم أصدقائه برسائل تلفونية بأنها جاءت استجابةً منه لدعوة صفحة الثورة السورية على الفايس بوك بعدم إرسال مباركات الشهر لتقليل أرباح مالك شركة الاتصالات التي وصفها بأنها تذهب لدعم الشبيحة وشراء الأسلحة المستخدمة في قمع المحتجين السوريين السلميين وقتلهم.

حينها أدركت إن علاقة الصداقة التي تجمعنا منذ سنوات الطفولة لا تزال على حالها، فرحت أسأله بشكل مباشر عن مخاوف المسيحيين من الثورة السورية وسبب اقتصار مشاركتهم الخجولة في الثورة على بعض الشخصيات المعتبرة منهم، وإحجامهم عن التفاعل مع الثورة بشكل يليق بوجودهم التاريخي كجزء أساسي من مكونات الشعب السوري، بل وأحياناً نراهم في مقدمة مسيرات التأييد والتي أصبحت تخرج من الكنائس أكثر من خروجها من المبان الحكومية.

قلق المسيحيين
بدايةً تردد صاحبي في الحديث كما السلطة التي لم تعد تملك ما تحتمي به سوى الإسهاب في التطرق للطائفية، لتبرير ما تقترفه من انحرافات مشينة،لكنه ونظراً لثقته بأن كلامه سيبقى سراً بيننا دون أن يعرف أي شيء في إمكانية نشر حديثه،قال لي أسباباً كثيرة أهمها quot;الخوف من عقاب السلطة الذي سيعاقبهم مرتين كونها تريد تحييد الأقليات بشكل عام كالأكراد والدروز والعلويين وجعل التظاهر في طابع سني بحت لتأكيد المقولة التي يتبنوها بأن المتظاهرين يريدون إقامة دولة سلفية في سورية،وهو بالطبع ليست كل الحقيقةquot; فهذه هي الثقافة التي عملت عليها السلطة والتي تستند إلى إثارة الخوف من السلفية وكأن بها نجحت إلى حد ما في تقليص وتحجيم دور المسيحيين وإزاحتهم باتجاهها بشكل شبه كامل.

وأضاف بأننا نرى بعض المسيحيين في سوريا يشعرون بالقلق وينتابهم هاجس من قدوم حكومة ذات توجهات سنية محافظة، فتقوم بممارسة التمييز ضد المسيحيين في البلاد خصوصاً بانتشار بعض الفيديوهات التي لا يعرف مصدرها والتي تروج لمضمون متشدد غريب وبعيد عن واقع المجتمع السوري المتعدد أصلاً والغني.

من الطبيعي إذن شعور البعض وخاصة الأقليات أن يظهر في فترات الأزمات في الدول المتخلفة والنامية التي لا تستند لقوانين وأنظمة علمانية تنضوي تحتها كل الطرائف والشرائح والمذاهب والإثنيات والأعراق وبالتالي من الطبيعي أن تهتز أركان الأنظمة الشمولية عند تأثر أطرافها وأقلياتها بالحراك الشعبي.

وأشار إلى فقدان الثقة في مستقبل الثورة السورية والتي من المفترض أن تؤدي إلى تشكيل دولة علمانية لها قوانين تتجاوز فكرة المذاهب والمحسوبيات الدينية والأقلية والمذهبية، فالمسيحيين العرب ورغم تعاطفهم القوي والأكيد مع المطالب المشروعة لليقظة السورية فإنهم لا يستطيعون المطالبة بإسقاط أي نظام علماني أو متسامح يقوم بدعم مطالبهم المشروعة ولو بالحد الأدنى.
ويضيف عمانوئيل أنه بالنهاية الأنظمة هي من إنتاج المجتمعات وهذه المجتمعات تعيش على تراث الماضي وفسرتها الأنظمة الشمولية بأنه من الطبيعي أن يظهر الخوف من الأخر الذي له امتداد تاريخي بمعنى ليس هناك مشكلة في أوربا أن تتواجد الجاليات الإسلامية والمسيحية وكلهم يعيشون تحت القانون وهذه الفكرة لم تتعمق في ذهن المواطن عندنا حسب مقاييس التطور عند المجتمعات والحضارات التي تكتشفها،وبالتالي يكون هذا الحضور الطبيعي للخوف.

التخوف من الأخوان
وعند سؤاله عن تخوفه شخصياً من دور الأخوان المسلمين القادم إلى الأرض السورية كما هو الحال في مصر مثلاً، تبنى صاحبي وجهة نظر الخبير الألماني بيرتيس الذي يرى عكس ذلك فيؤكد على quot;وجود اتجاه كبير في صفوف المثقفين المسلمين السنة في سوريا يدعو إلى التمسك بالنظام العلماني في سوريا وأن فرص حركة الأخوان المسلمين تبدو ضعيفة، بالمقارنة مع مصر، في الفوز بأي انتخابات يمكن أن تجري في سوريا كون حركتهم تم تقطيع أوصالها في المواجهات مع النظام التي جرت في ثمانينيات القرن الماضي وما بقي من أتباع تنظيم الإخوان المسلمين فهم يعيشون لاجئين في الغرب، وأصبحت لديهم أجندة جديدة بعيدة عن الأصولية أو التطرفquot;، وأشار بشكل منطقي إلى أنه يلاحظ دور الأقباط قد بدأ بالحراك الفعلي بعد الثورة المصرية،معتبراً بأن الناس في المنطقة بدؤوا بالتعرف على الأقباط المصريين من خلال الدراما المصرية هذا العام حيث أغنت في مسلسلاتها الكثير من الشخصيات المسيحية كمؤشر فعلي ببداية تحرر الدراما من الرقابة التي كانت موجودة في زمن مبارك على حضور الأقباط فيها.

وبالعودة للشأن السوري أضاف صديقي بأن السلطة عرفت من خلال الأربعين سنة الفائتة كيف تعمل على حبل الطائفية، وأسهب بالإشارة إلى البعد التاريخي للمسيحيين والذي يتمثل بالمآسي التي شهدوها في عهد المسيح من قبل اليهود، معتبراً بأن هناك قصر نظر من جانب الذين يريدون من المسيحيين العرب أن يثوروا في وقت تعرضوا فيه حتى الأمس القريب إلى تفجير كنائسهم ومنازلهم وقتل أبنائهم في بعض البلدان الشرق الأوسطية.

دور الكنيسة
ونفى صاحبي أي دور للكنيسة في تحييد المسيحيين من حركة التظاهر وقال بأن ليس كل المسيحيين يصدقون ما يروى في الكنائس التي لا تتدخل في الشؤون السياسية أصلاً وعندما يحدث ذلك يكون قراءتها للواقع مغلوطاً وفهمها محدوداً ومن يراجع تاريخ الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا، سيجد أنها تكبدت خسائر لا تعوّض بسبب اعتقاد المسئولين عنها بأن مجد هذه الكنيسة مرتبط بقوة الملوك والأباطرة، فإذا بها تسقط مع الثورات التي أنتجتها آلام الفقر والجهل، ومن يراجع تاريخ الكنائس العراقية يقول بأنها كانت راضية بديكتاتورية صدام حسين، غير آبهة بما يقترفه من جرائم، وأن المسيحيين في سوريا تناقصوا من 25 بالمائة قبل حكم حافظ الأسد إلى 4 بالمائة اليوم، فيما كثير من الشباب المسيحيين السوريين هربوا من بلادهم، بسبب القمع، ولجئوا لأوروبا والولايات المتحدة الأميركية، لأنهم تجرؤوا وانتقدوا القمع الذي يمارسه النظام على مدوّنات إلكترونية، وكشفوا أن عدداً غير قليل من المسيحيين أعتقل لسنوات بتهمة الانتماء إلى تنظيم الإخوان المسلمين.

دافع المسيحي للتظاهر
ولفت صاحبي إلى المسيحيين من أمثاله والذين يتواجدون في الشارع والأسباب التي تدفعه للتظاهر فيقول إن الخوف هنا مزدوج فإما يكون المسيحي الذي يتظاهر خائفاً من المد الإسلامي وبالتالي يكون أحد الأصوات الشعبية المسيحية بين جموع المتظاهرين وإما بحثه عن الحرية والمواطنة وإحساسه بأن المشكلة واحدة في مواجهة الأنظمة القمعية فيطغى مفهوم المواطنة هنا فوق كل المفاهيم الأخرى، مشيراً في الوقت نفسه أنه لا يجب نسيان إن الذين يخرجون أي كان دينهم وعرقهم هم في غالبيتهم من جيل الشباب التواقون للحرية الحقيقية والبحث عن المواطن الحقيقي والإرادة الحرة.

ويذكر عمانوئيل بأننا والمسيحيين عشنا معاً أربعة عشر قرناً فبأي قرن منها كنا خصمين؟،حيث كنا كأسرة واحدة حتى في قلب الغزو الأوربي للشرق تحت راية الصليبيين.
كما يشير صاحبي هنا بأن المسيحيين ينتمون إلى الحراك الجماهيري السوري المعارض لنظام بشار الأسد دون أن ينسى بأننا بحاجة إلى حوار حقيقي ولا ينبغي أن نؤجل ذلك الحوار لحين رحيل النظام، فالكل متفق على ضرورة رحيل هذا النظام المجرم القاتل، ولكن على المطالبين بالحرية والديمقراطية أن يتفهموا خصوصية كل المكونات السورية، وان يتعهدوا ببناء سوريا جديدة لكل أبنائها حيث يوجد من بين كل الفئات والمكونات السورية من هم معدومين وسجناء مؤبدين ومبعدين عن السلطة ومُطاردين، وهاربين إلى لبنان والأردن ومصر وأوربا.

الخروج من الجوامع
وعند سؤاله بأنه لا يخشى ويتوتر عند خروج جموع المتظاهرين من الجوامع أجابني بطريقة فيها من التحايل على السؤال قائلاً quot; المسألة لا تتعلق بسؤال وجواب فلقد أثبتت سوريا وعلى مر العصور والتاريخ بأن الشعب واحد ولا فرق بين مسيحي ومسلم إلا بالانتماء للوطن وقد يكون المثال التالي واضحاً ودقيقاً حيث أن الدول المتقدمة والمتحضرة تجاوزت كل هذه المفاهيم بمعنى تجاوزت بذلك الامتداد الأفقي وبدأت تفكر بالصعود عمودياً وإذا ما كان هناك ثمة حضور يتعلق بالدين فهذا يعني :ما للمسيح للمسيح وما لقيصر لقيصرquot;.
فمن كان يناصر ديكتاتوراً، سيرحل مع حاشية الديكتاتور عندما تطيح به ثورة التحرر، والذي لا يساند مظلوما،سيقبع لوحده مظلوماً.
ربما كلام صديقي جعلني أمعن بأن الناس بدؤوا يفكرون بأنه من المفترض أن ما تفرزه الثورات العربية في الوقت الحالي يدل على أن الشعوب تفكر بما هو أهم،وأن الحياة لم تعد مرتبطة بتناحر الأديان والأقليات، فعندما نقرأ الفلسفة أو نتأمل اللوحات أو نبني علاقة مع الآخر دون معرفة دينه وعرقه فهذا يعني بأن الإنسان يتعامل مع الإنسان فقط لا غير.