بقدر تسارع وتيرة الاحتجاجات في سورية واتّساع رقعتها يزدادُ الوجودُ الأمنيّ كثافة وفعلاً، ليصبحَ كلّ منهما محرّكاً ودافعاً للآخر، مما يجعل تقييمَ الموقف والتنبؤ بالنتائج عملية غير يسيرة، ففي غياب الحوار يضيف الطرفان (المحتجون والنظام) حلقات متناوبة من الفعل وردّ الفعل إلى سلسلة صراعٍ لايعرف أحدٌ أين تنتهي وكيف تكتمل.
ولعلّ نظرة فاحصة للمرتكزات التي يعتمد عليها الشارع السوري في انتفاضته تشير إلى خواء يديه من أيّ يقين غير الإيمان بإرادته وبمشروعية مطالبه. فالمتظاهرون راهنوا ndash;ومازالوا- على أنّ اتساع رقعة الاحتجاجات سيشكل ضغطاً على الحكومة، وقد استطاعوا بالفعل نيل بعض الحقوق المهمة. لكنّ المراهنة على صحوة مجتمع مخدّر منذ عقود تبدو مبالغة في التفاؤل إذا ماذكِرت المناطق الكثيرة التي لم تشهد أيّ حراك. وعلى افتراض أنّ الاحتجاج عمّ سائر البلد، فإنّ المعالجة الأمنية والعسكرية التي تستخدم الآن تنفي احتمالَي تحقق الإصلاح المنشود أو تنحّي القيادة بحسب طلب بعض المعارضين مؤخراً. أي أنّ ماتحقق في مصر لن يتحقق في سورية إلا بمعجزة، خاصة وأنّ احتمال بقاء الجيش حيادياً أو انحيازه إلى المحتجين ليس أقوى من الاحتمال السابق كونه يرتبط بالدولة أكثر من ارتباطه بالوطن وكون أفراده عرضة لذات التشتت في الرؤية والموقف السائدين بين المواطنين.
ولعلّ المرتكز الثاني (الضغط الخارجي على الحكومة) أقلّ حظاً للنجاح من سابقه، بسبب انشغال البلاد العربية بأزمات مشابهة من جهة ولأنّ الوضع العراقي ومايجري في ليبيا اليوم يردعان أي سوري عن التفكير بطلب التدخل الأجنبي. ربما أقصى مايطمح إليه البعض قليلا من الضغط الدبلوماسي من جهات حيادية إلى حد ما ولاتتقاطع مصالحها مع سورية، وذلك لإيقاف نهر الدم.
هناك ورقة أخيرة ربما استخدمها أو يفكر باستخدامها بعض المحتجين وهي التسلّح لمواجهة قوى الأمن والجيش، وحصول هذا الأمر ولو على نطاق ضيق يعد خطأ كبيرا، لأنّ بقاء المظاهرات سلمية ليس منهجا أخلاقيا وحضارياً فحسب، وإنما ضرورة وحاجة استراتيجية، فالمحتجون حين يحملون السلاح يعطون مبرراً للحكومة لاستخدام حقها الكامل في إعلان الحرب عليهم، بالإضافة أنّ سلاحهم لن يقارن بالأسلحة الثقيلة التي تملكها الدولة، وبالتالي تكون النتائج لغير صالحهم غالبا. وفي الحقيقة إن المعارضة التي تقترح السلاح والتدخل الأجنبي تخسر شعبيتها المحتملة.
إنّ اكتشافَ المحتجين هشاشة مقوّماتهم على أرض الواقع قد لايغير قرارهم بالاستمرار، إذ يعرفون أنّ انسحابهم من الشارع لايقلّ خطورة عن التقدم الأعمى للأمام، فلجوء النظام إلى الحلول الأمنية والعسكرية أسقط آخر أوراق الثقة به، ووضعَ المحتجين موضعَ طارق بن زياد ليمضوا قدماً مع خيارهم الأخير والوحيد معتمدين على ألقهم الروحي وإيمانهم أنّ الموت سيتعبُ وسيهربُ من شوارعَ تتدفقُ فيها أمواجٌ من الصدور العارية!
في المقابل يستخدمُ النظامُ السوري استراتيجياتٍ عدّة متناوبة أو متزامنة: ردع الاحتجاجات أمنيا وعسكرياً وتلبية بعض المطالب الشعبية والحرب الإعلامية. الاستراتيجية الأمنية لم تحقق شيئا حتى الآن، فإذا صحّ أنها ردعت المترددين عن المشاركة في المظاهرات، فإنها من جهة أخرى أجّجت غضبَ الكثيرين، وستمنعُ -كما سلف- المحتجين من التراجع بسبب فقد الثقة. كذلك تنطوي الاستراتيجية العسكرية على مخاطرة عظيمة، وإن لم تظهر نتائجها بعد. فهي تراهن على ولاء كامل الجيش للنظام، وقد يثبتُ أنها مقامرة خاسرة تجلبُ المزيدَ من المشاكل الداخلية، وتفتحُ البابَ لتدخلاتٍ إقليمية وأجنبية. أما لو ثبتَ نجاحها في إخماد المظاهرات فهذا دليلٌ على اغتيالها للديمقراطية التي أقرّها النظامُ غاية ومنهجا.
الاستراتيجية الثالثة (تلبية المطالب) جاءت دائماً متأخرة وكأنها فعلٌ إسعافيّ واسترضائيّ، وهذا ماخلقَ حالة ذاتَ طابع ازدواجيّ متناقض عند المتظاهرين. فهم إذ يقارنون بين مابذلوا من دمِ وأرواح شبابٍ نخبةٍ في الشجاعة وإرادة التغيير وماتلبّى من مطالبهم يشعرون بتفاهة الثانية خاصة وأنّ القبضة الأمنية لم ترتفع. وهم في نفس اللحظة يدركون قوّتهم وأنّ نزولهم إلى الشارع هو ماحقق هذه المنجزات، فيواصلون سعيهم من أجل نيل المزيد. لقد كانت استراتيجية الإصلاح وتلبية المطالب الديمقراطية كفيلة وحدها بمعالجة الموضوع برمته، لكنّ سوءَ استخدامها قلل من شأنها.
الاستراتيجية الرابعة تبنّاها ndash;ومايزال- الإعلامُ الرسميّ، فهو منذ البداية ينذرُ بالفتن الطائفية وشبح الحرب والانفلات الأمني ويحذر من العصابات والإرهاب والمؤامرات الدولية، ورغم اتفاق الأغلبية على سذاجة أسلوب هذا الإعلام المخابراتي ndash;مع أنّ بعض أطروحاته صحيحة- إلا أنه نجح إلى حدٍّ ما في خلق التشتت في الرؤية وزعزعة المواقف. في البداية لم يصدقه إلا من رغب بتصديقه متبعاً مقولة أنّ الانحياز للأقوى أنجى وأسلم، لكنّ تأثيره امتد أخيراً إلى بعض المثقفين مما يوحي باستعانته بخبرات أمنية غير سورية. لم ينجح الإعلامُ السوري في تقديم معلومة واحدة مؤكدة، وإنما عملَ على التشكيك في كل معلومة جاءت من الإعلام الآخر، حتى صار التماسُ الحقيقة كالسير في الضباب.
أخيراً، إذا كانت مقوّماتُ نجاح الشارع ليست كبيرة، فاستراتيجياتُ النظام في معالجة الأزمة لاتملك حظوظاً أوفر. سيظل الطريقُ غامضاً إلى أن تظهرَ قوى أخرى أكثر فاعلية، أو تختارَ الحكومة المعالجة السياسية كحلّ جذريّ. ولعلّ نبذ العنف وبدءَ الحوار ينجحان في مدّ جسور الثقة بين الطرفين وتجنيب البلد كارثة يخسر فيها الجميع.
- آخر تحديث :
التعليقات