يلاحظ المتصفح للإنترنت قبيل رمضان 2011 وأثناءه كثرة المجموعات الشبابية المحرضة على مقاطعة المسلسلات السورية احتجاجاً على مشاركة ممثلين موالين للنظام فيها. ولاريب أنّ هذه الدعوات لاتهتم بقيمة العمل الفني ورسالته، بل يحكمها التعصب الأعمى والتعسف اللذان بدأا يبرزان كسمات مَرَضية للمعارضة، فالنظرية البنيوية أسست منذ نحو نصف قرن لفكرة الفصل بين العمل الفني ومبدعه، هذا بالإضافة إلى أنّ كاتب الدراما والمخرج هما المعنيان بتقديم الرسالة، وماالممثلون إلا حاملون لها.
يبلغ الغلو عند دعاة مقاطعة الدراما السورية حداً يجعلهم يرفضون العمل كله حتى قبل أن يرَوه، وهذا ماجرى مع مسلسل (الولادة من الخاصرة) من تأليف سامر رضوان وإخراج رشا شربتجي، فهذا المسلسل بالذات كان مفترضاً به أن يحظى بقبول من في المعارضة كونه يعرض للفساد ويدين الأجهزة الأمنية والقوانين الجائرة، وكان الأحرى بهذه المجموعات الشبابية أن تروّج للعمل بدل مقاطعته.
غزلَ الكاتبُ نصَّه على ثلاثة محاور. في المحور الأول يتزوج ضابط المخابرات رؤوف (عابد فهد) الشاعرة سماهر (سلاف فواخرجي) مدعياً أنه مهندس مثالي، وحين تعلم حقيقته تجهض حملها منه، فيعاقبها هي وأهلها وطبيب الإجهاض بأشد أنواع التعذيب، وليخفي جرائمه يلجأ لمستشاره صلاح الأستاذ في كلية الاقتصاد. يطرح الكاتب هنا أشكال العلاقة بين السلطة والنخبة المثقفة. تتقرب السلطة إلى النخبة لتتجمّلَ بها وتتطهر ولتستخدم فكرها لحماية نفوذها. تثورُ الشاعرة لمّا تكتشف حقيقة السلطة، بينما يستشعر صلاح خطر الانزلاق مع رؤوف، فيقفز من عربته إلى عربة مسؤول آخر. والسؤال هنا هل يستطيع المثقف الظل للسلطة أن يحرّكها ويورّطها حقاً ؟!!!!!!
تكتب سماهر تجربتها فترفض الرقابة نصّها. ترمي أوراقها في الهواء حالمة كالماغوط في ضيعة تشرين بنسمة تحمل الكلمات وتنشرها. في هذا المشهد الختامي للمسلسل يعيدنا الكاتب إلى مقولته في مسلسله السابق (لعنة الطين) إنّ الفساد في الدولة ليس حالات فردية يمكن معالجتها، وتتردد في الأذهان شارة مسلسل يوميات مدير عام (عووووووجا). ترى هل كتب سامر رضوان بعضَ كلمات المسلسل على الهواء، وترك للمشاهد التقاط الريح والسفر السرّيّ في فضاءاته القصية؟!
قام المحور الثاني في قلب العشوائيات، وهذه لم تأخذ حقها في الدراما السورية رغم أنها باتت من أهم القضايا الجدالية على صعيد القانون والإنسانيات. هنا يسلط الكاتب الضوء على العلاقة بين السلطة وعموم المواطنين. الفقراء وأصحاب النفوذ. من يكدحون ليحافظوا على جحورهم ومن يدمر هذه الجحور لأن منظرها يؤذي عينيه ويقلل من استمتاعه بصور الرفاهية والرخاء.
في هذا المحور برزت شخصيات كثيرة أهمها: جابر (قصي خولي) الذي لجأ إلى الحارة بعد طرد والده له متهماً إياه بسرقة مليون ليرة. أبو مقداد (فادي صبيح) تاجر بسيط يبحث عن طرائق للربح السريع والصعود فوق، ويحاول الإيقاع بزوج جابر الجميلة (صفاء سلطان). أبو الزين (محمد حداقي) بائع فلافل شهم يساند جابر في محنته ويدافع عن الحارة وحقها في الوجود، فيدفع ثمناً غالياً كلفته الأكبر كانت من روحه وإنسانيته. يتضافر هذا المحور مع سابقه ليؤكد أنّ فسادَ السلطة والقوانين استشرى في المجتمع، والخرابَ يوشك أن يلتهم البلد كلّه.
حين هدم البلدوزر بيوت الحارة المليئة بنبض البشر وصدى حكاياتهم وأحلامهم الصغيرة هدمَ قيمَ أبي الزين أيضا، وهدم ادعاءات النظام المدنية. يصرخ أبو الزين طالباً من رجال الحارة الوقوف في وجه المحافظة: quot;لازم يعرفوا إنه هذه بيوت عن جد. مو بيوت عنكبوت ليقشوهاquot;. يتهاوى بيته. يسقط، فتسقط في عقله قيمُ والده والشعورُ الكاذب بالانتماء لوطن ضالّ ينحاز للأغنياء: quot;طول عمري لحالي. وقفوا معي هالمرة بسquot; ولما لايجد من يقف معه تعصف به مشاعر اليأس والغضب... لحظات تمرد وجنون يفكر بعدها بالانتقام لجابر من خطيب أخته الذي سرق المال واتهمه: quot;اللي مامنقدر عليه منقتل جاره، وأنا بدي أتفشش ياأما بطقquot; هكذا يقتل الفقراءُ بعضهم بعضا لأنهم لايقدرون على مجابهة النظام، لكنّ صرخة أبي الزين تبقى مدوية مفتوحة على احتمالات التفسير: quot;شو بدكن لحتى تطالعوا الخوف من جواتكن؟!quot; هل هذه الصرخة دعوة للفقراء والبؤساء ليثوروا على الظلم والقمع أم نبوءة بثورة أم إنذار بخراب سيصيب الوطن/ الكل؟!
في المحور الثالث نتعرف على صاحب معمل الخياطة واصل (سلوم حداد) وابنه علّام (مكسيم خليل). يتفانى الأب في تدليل ابنه بعد وفاة الأم إلى الحد الذي يفسده، فيطرد الابن أباه من المعمل ويسيء للموظفين وينتهك أعراض الموظفات. يدرك واصل أنه سبب فساد ابنه، فيعاقب نفسه بحرق اليد ثم بقطع اللسان وأخيراً بالانتحار.
لايقل صراع الأجيال في المسلسل حدّة وتوتراً عن صراع السلطة والمواطن: يخرج علّام من دائرة الدلال التي رسمها له والده ليؤكد ذاته المستقلة، فينحرف كونه لم يعرف قيماً غير قيم متعته ومباهجه الخاصة. يمدّ سيطرته على المعمل، فيمنعه الأب الذي وجد نفسه أمام خيارين: أن يحافظ على مملكته التي أرسى أسلوبه ومبادئه فيها خلال عشرين عاماً أو يحمي علاقته بابنه الوحيد، ولإدراكه أن المعمل ليس بناءً وآلياتٍ ومكاتبَ، بل بشراً وعلاقات يضحي بابنه ويعاقب نفسه في ذات الوقت.
باستثناء جابر وحنين ابنة رؤوف اللذين ظلا ينشدان دون جدوى رضا والديهما وغفرانهما على ذنبين لم يرتكباهما، ظهر الجيل الجديد مؤكداً حالة الاغتراب والانفصال عن قيم الآباء. متميزاً بالأنانية ونشدان المتع الشخصية من علام إلى ريم التي أقامت علاقة معه ثم لم تتوانَ عن الإعلان عنها ومقاضاته طمعا بالزواج والمال، وأخت جابر التي سرقت المليون ليرة وأعطتها لخطيبها متهمة أخيها ومعرضة العائلة كلها للتمزق والانهيار.
من عيادة الدكتور منصور طبيب النساء تتفرع المحاور الثلاثة لينسجَ منها سامر رضوان حكايات بسعة الوطن. فواصل يأتي بريم ليجري لها عملية إجهاض بعد أن أقامت علاقة مع ابنه علام، وجابر يعمل لدى الدكتور منصور، ومن خلاله نطل على الحارة التي سكنها مؤخرا وعلى مشكلته مع أهله، وفي هذه العيادة أجهضت الشاعرة سماهر حملها من رؤوف، وجرّت معها الدكتور إلى المعركة مع السلطة. ترمز العيادة النسائية عادة للولادة أو الشفاء، لكنها هنا ارتبطت بالإجهاض لتؤكد أن وطناً معلولاً يلد الفشل والموت والغش لا الحياة. العيادة بؤرة عذابات الوطن وطموحاته وأحلامه وانبعاثاته لايمكن أن تهبَ إلا الإجهاض أو ولادات من الخاصرة. جميع الشخصيات ولدت في الألم والمعاناة وعاشت ظروفا غير طبيعية، فمن أين يأتي الحصاد الجميل؟!
تتجلى رؤية سامر رضوان لعلاقة الوطن/ السلطة بالمواطن في تحوّل أبي الزين من مناضل عفوي متمسك بالقيم إلى قاطع طريق، فوطن يقسو على أبنائه ويشردهم ويحرمهم أدنى حقوقهم بالعيش والكرامة لابدّ أن يحولهم إلى مجرمين، ولابد أن يعاني هو نفسه من جرائمهم. ضمن هذه الرؤية يغدو الوطن جلاداً وضحية معاً، وتؤدي معظمُ الشخصيات الدورين ليختلط الأبيضُ والأسود داخل كل فرد بنسب متفاوتة، ويتداخل وجها الضحية والجلاد في حلقات لانهائية من السبب والنتيجة، فجابر المتهم ظلماً بالسرقة يدمن الكحول هرباً من محنته مسبباً مزيداً من المشاكل لزوجه وربِّ عمله. وأبو مقداد الانتهازي يعترف بألم لأبي الزين: quot;نحن تراب وايمتى مابدهن برشونا مية ومنصير طينquot;. الضابط رؤوف الذي شوّه وجه زوجه بالنار نكتشف أنه أسير هواجس شتى، فهو من جهة يريد أن ينسى نشأته البائسة في ملجأ للأيتام، ويحلم بعائلة وولد يحفظ نسله، ومن جهة أخرى تعذبه خيانة زوجه الأولى، فيقسو على الثانية والثالثة.
لايمكن تفسير رؤية سامر رضوان لثنائية الجلاد والضحية إلا ضمن منظور إنساني يشفق على هذا الكائن الضعيف المعذّب، فيدفع العقلَ إلى استقراء تجربته والبحث عن مبررات لأخطائه. ولعلّ المشاهد تناوبته مشاعر الكره لرؤوف في قسوته وتسلطه والتعاطف معه حين علم أنه سيصبح أباً، فصعد إلى سطح القطار شاكراً ربّه متضرّعاً في مشهد لامثيل له زاخرٍ بالحسّ والفرح والسموّ الإنساني!
معظم شخصيات المسلسل كانت مأساوية في نزعاتها وتجاربها، باستثناء شخصيتين كوميديتين: أبو حسام (عبد الهادي الصباغ)، المشتت العقل والذهن بين قواعد جيش قضى عمره في خدمته وفوضى حارة عشوائية وواقع حياتي يغتال يومياً طلباته الصغيرة. استطاع عبد الهادي الصباع بملامحه التراجيدية وعباراته غير المترابطة أن يرسم ابتسامة مرة على الشفاه. والشخصية الثانية هي الطبال العاشق أبو فياض (قاسم ملحو). ولعلّ محاولة الصحفية نوال (رنا شميس) تهذيب شخصية أبي فياض وتثقيفها تذكّر بمحاولة الفنان بجماليون أن يهب حرارة الحياة لمنحوتته الجميلة، والتي غدت مصدر وحي وإلهام للعديد من فناني العالم فتجلت في سيدتي الجميلة لبرنارد شو ومسرحية بنت الجبل التي غنتها سلوى قطريب وغيرهما كثير. لكنّ سامر رضوان استفاد هنا من المفارقات المضحكة التي تنتج عن وضع طبّال شعبي غير متعلم في أجواء الصحافة والانترنت دون أن يذهب بعيدا في طرحه مفضلاً الالتزام بنهج الواقع.
قدّم الكاتب جرعات ثقيلة من السوداوية والقسوة والعنف تخللتها رشفات سائغة من الكوميديا لم يستهلكها فيما يصنّف بالفن السياسي التنفيسي واستدراج المتفرّج إلى الضحك من أزمته وتفريغ غضبه وحقده. وإذا كان يؤخذ عليه شيء بالإضافة إلى العنف الزائد غير المألوف في الدراما السورية فهو أنه أعطى أجوبة لمعظم الأسئلة التي طرحها، فبدا كاملَ المعرفة بموضوعه، وغدا المتفرج متلقياً سلبياً قلّما يثيره سؤال.
ويُحسب للكاتب أنه لم ينشد محاكاة الواقع، بل فهم منطقه، واخترع المعادل الذي تستشعره مخيلته الهائلة، فأتت حكاياته جديدة وطازجة. وليست الحكاية أو الرسالة أو نحت شخصيات فريدة ومتميزة فقط مكامن إبداعه، إنما مقدرته الفنية على خض الواقع وإطلاق جوهره. كل ذلك في لغة حساسة وشهية ومتنوعة بما يناسب كل شخصية على اختلاف حالاتها وبيئتها ومستواها الثقافي.
- آخر تحديث :
التعليقات