بعد أن قرأت بيان 64 ناشطاً سعودياً حول المواجهات الأخيرة بين قوى الأمن ومتظاهرين استخدموا المولوتوف وأصابوا رجلي أمن في القطيف، شرق السعودية، توجهت فوراً إلى ويكيبيديا، فوجدت أن عدد سكان المملكة 27 مليوناً، ولذلك فإن 64 موقعاً ndash; حتى كتابة هذا الحديث - في مواجهة 26 مليون مواطن لم يوقع، دليل حي بلغة الأرقام أن البيان، لا يمثل صوتاً يستحق أن يسمعه أحد.
ذلك كان الحديث بلغة الأرقام، أما الحديث بلغة الأشخاص فهو أمر ثقيل الحساسية عاطفة، وثقيل الحساب عقلاً، وما بين العقل والعاطفة خيط حوار طويل، لا بد أن يشده أحدهم، وإلا ستكون معزوفة الحديث ناقصة، بل نشازاً لا صوت له.
وقبل ذلك كله لا بد من إشارة إلى أن الحوار، لغة، وحديثاً، وفكرة، واصطلاحاً، ومبدئاً، لهو دليل حيوية المحاور، سواء أكان ذلك رجلاً، أو جماعة، أو شعباً، أو دولة. أما رفضه، واعتبار كل من يقوم به خائن، أو عميل، فذلك دليل على أن هنالك شيء عفن في عقل الرافض، لا الدانمارك، كما كان يقول شيخ الأدب الإنجليزي الأعظم شيكسبير.
من هنا أدخل في حوار مع موقعي البيان، وأولهم رأس البيان ورئيسه، الصديق محمد سعيد طيب، خصوصاً وأنه الرجل الذي أخذ على عاتقه، دون سواه، وصف جميع الصحف وكتابها الذين انتقدوا بيانه بأنهم جوقة، ناسياً بأننا في القرن الحادي والعشرين، القرن الذي توصلت فيه العلوم جميعها إلى فكرة كونية مهمة، وهي أن لا أحدا يملك الحقيقة المطلقة، بل يرى ما يعجبه من الكأس، ولكل أدلته، وبراهينه، في الحالتين.
وبهذا المنطق، أي منطق الجوقة الذي أستخدمه طيب، فإن لنا الحق أيضاً، بأن نصفه بأنه واحد من جوقة أخرى، طالما أنه أعطى لنفسه حق انتقاد مطلق، وسحبه من آخرين، رغم أن وظيفته خلال السنوات الأخيرة، ومثقفين آخرين، أنهم ليسوا أكثر من جوقة نقد تتحين وصلتها كل فترة، دون عمل حقيقي على الأرض، ودون شعبية تذكر من الشارع، وتلك قصة أخرى لا بد أن تروى ذات يوم!
لكنني لا أستخدم هذا الحق ndash; حق وصفه ورفاقه بأنهم جوقة مضادة- لأننا كما قلت في عالم متحضر، وقرن مختلف، يؤمن بحوار الآراء لا صدامها، وحديثها لا تكميمها، كما يحب العزيز طيب، الذي يحن إلى أيام الستينات - حيث صباه، وصبابته، وفكره، وثوريته ndash; ويبدو أنه لم يستطع أن يتجاوزها حتى الآن.
أقول لأبو الشيماء، أن فكرة الدولة كانت أعظم الاختراعات في عالم البشر وتاريخهم. نظمت فكرة الدولة الجماعة، وحولتها من كونها كتلة بشرية تتلاعب بالزمان والمكان، وتتواجد فيه حسب حاجتها للطبيعة، إلى أن جعلتها نهرا يجري، له مصب، ومفيض، ومسيل، بقواعد راسخة وباقية. وهكذا كانت فكرة الدولة، وقامت ونمت حتى القرن العشرين، وخلال تلك المسافة الزمنية الطويلة، حددت هذه الفكرة ndash; فكرى الدولة- خطوطاً رئيسة أهمها أن السلاح ملك حصري للدولة، لا المواطن، فكيف يحايد أي شخص في حق هو أساس ما تقوم عليه الدول، وهو السلاح، وحماية الأمن، وهيبة البلاد، وقدسية النظام؟
يلفت النظر في هذا البيان خلطه بين حديث حول معتقلين واعتقالات، وبين مواجهة لرجال امن، وحمل السلاح، وقتلهم؛ وهنا يتسائل سائل عن الفرق بين طيب ورفاقه، وشيوخ فتاوى الإرهاب الذين أفتوا بجواز قتل رجال الأمن، وتمايعوا في الاعتراف بحقهم في الدفاع عن أنفسهم، في وجه من رفع عليهم السلاح؟
ويشهد التاريخ أن الدولة لم تنظر أبدا في طائفة من رفع السلاح عليها، بل تعاملت معهم سواسية؛ وكقارئ معاصر لتاريخ آل سعود مُلكا، وملكية، يعرف كثيرا من الشواهد، أكثر مني بالطبع، ولا أزيد في ذلك، فقد فهم الرفيق رسالتي، وتذكرها.
الأدهى من ذلك في البيان تجاهلالمصابين منرجال الأمن، وكأنهم لم يكونوا !
خطورة ما جاء في البيان هو دعوة لا سابق لها لتشكيل لجنة تحقيق في حادثة تعرض فيها رجال أمن للاعتداء، وقتل منهم من قتل، وحاول البقية منهم الدفاع عن هيبة الدولة وشرعها، وشريعتها، وشرعيتها. لم يحدد البيان طبيعة هذه اللجنة بوضوح، لكنها قد تكون مؤشرا إلى دعوة مقبلة قد تؤدي إلى تدويل فكرة، وحادثة، وتشتيت هدف سامي، نسعى إليه جميعاً، وهو الإصلاح المتوازن من الداخل، وليس على قعقعة الجيران، التي لم تغير شيئا في التاريخ منذ نصف قرن.
معروف أن السعودية تعيش حراكاً هو الأكثر حيوية بين دول الجوار، وأكثر تأثيراً، لكن إفساد هذا المنهج يتم كل فترة على يد تجار الأزمات، الذين يريدون تصفية ثارات قديمة لهم، متناسين أن هذه الدولة صمدت مرات ومرات، إزاء أعداء تصوروا أنهم منتصرون لا محالة، لكن وحدها السعودية بقت حية رغم كل شيء !