كانت أحد الأعراض الجانبية لثورة 25 يناير المصرية هو إختفاء الشرطة تقريبا من الشارع المصرى بعد أن تعرضت لإعتداءات وإهانات عديدة. وكان من نتيجة هذا أن إنتشرت الفوضى فى الشارع المصرى وإنتشرت أيضا ظاهرة البلطجية. ولست أدرى بالضبط مصدر كلمة quot;البلطجيةquot; وإن كنت أعتقد أنها كلمة تركية والمقصود بها الشخص الذى يمسك ب quot;البلطةquot; كسلاح فى يده، وإن كان أحد القراء لديه معلومات عن أصل الكلمة فليتفضل مشكورا بالإيضاح.
وظاهرة البلطجية كانت موجودة من قديم الزمن وفى كل مكان، فقد كانت فى مصر قبل إن يستتب الأمن وكانت معروفة بظاهرة الفتوات، والتى وصفها أجمل وصف إستاذنا نجيب محفوظ فى كثير من رواياته، وكان الفتوة يفرض إتاوة على أهل الحى وبالذات على من يملكون المال نظير حمايتهم من رجال الفتوة نفسه، وكانت أشبه بالإبتزاز، وكان الفتوة يحمى أهل الحى من إعتداء فتوات الأحياء الأخرى، وفى كثير من الأحيان كانت تتم تحالفات بين رجال الشرطة والفتوات أو بين الفتوات وبين رجال السلطة مثل العمد ومشايخ الحارات، وقيل أيضا أن وزارة الداخلية المصرية قد إستعانت بهم فى الماضى لضرب معارضى الحكومة سواء أثناء الإنتخابات أم غيرها من المناسبات السعيدة.
وعشاق نظرية المؤامرة ضخموا دائما دور البلطجية فى السياسة المصرية رغم أن ظاهرة البلطجية موجودة تقريبا فى كل المجتمعات ففى أمريكا على سبيل المثال كانت هناك quot;المافياquot; الإيطالية ثم ظهرت حديثا quot;المافياquot; الروسية سواء فى أمريكا أو روسيا، ومازالت الجريمة المنظمة فى العالم كله من أكبر المشاكل وتعمل فى مجال المخدرات (كما نرى فى المكسيك وكولومبيا وأمريكا الجنوبية بصفة عامة)، وكذلك تعمل فى مجال الدعارة والقمار الغير مشروع وفى الإقراض العالى الفائدة وغيرها، وكلما زادت البطالة فى بلد ما كلما زادت ظاهرة البلطجة والجريمة المنظمة.
ولكن البلطجة فى مصر لم ترق بعد إلى مرحلة الجريمة المنظمة (والحمد لله) لأنها مثل المرور فى القاهرة، إستحالة أن تكون لدى المجرمين المصريين جريمة منظمة نظرا لنقص التعليم والتدريب لدى المجرمين المصريين، وما يشهده الشارع المصرى من فوضى تشاهده أيضا فى الجريمة. وإن كان مؤخرا بعد الثورة إتخذت الجريمة المصرية أبعادا جديدة ربما أشهرها الآن هو إختطاف أولاد وبنات لإرغام الأهل على دفع فدية للإفراج عنهم أو حتى سرقة سيارتك لكى يبيعونها لك مرة أخرى، وكذلك جرائم قطع الطريق والتى بدأها بغباء بعض أصحاب المطالب الفئوية وبعض المتظاهرين، ثم إنتقلت إلى المجرمين، لذلك بدأت مصرتفقد ماكانت تتميز به من أمن وأمان، وأرجو أن تكون تلك ظاهرة مؤقتة سوف تنتهى بنهاية المرحلة الإنتقالية، لأنه بدون عودة الأمن والأمان لمصر لن يكون هناك: سياحة أو إستثمار أو خلق فرص عمل جديدة.
...
ولكى أعرف حقيقة الظاهرة وقررت المغامرة لكى أقابل أحد البلطجية الجدد لمعرفة مايجرى فى عالم البلطجة فى مصر اليوم، وقررت الإستعانة بزميل سلاح سابق عرفته أثناء قضاء فترة التجنيد الخاصة بى، هو من أهالى السويس وأول ما تشوف منظره لا يعطيك أى شك أنك تتعامل مع فتوة سابق أو بلطجى حالى، وهو يكن لى إحتراما خاصا نظرا لرفقة السلاح. وهو يسكن فى أحد الأحياء العشوائية بمدينة السويس، فإتصلت به ودارت بيننا المحادثة الآتية:
- إزيك يا واد ياعلى
- إيه مين؟
- مش عارفنى ياعلوة، مش عارف مين كان بيجيب فيك الجون بين رجليك لما كنت بتقف جون؟
- بجد مين ، يبقى أكيد حد من أيام الجيش؟؟
- إبتديت تقرب أهو؟
- مين .. الباشمهندس سامى مش معقول؟؟ فين أيامك الحلوة يا باشمهندس؟؟
- إزيك ياعلوة وإزى ولادك ومراتك؟
- مراتى طفشت ما أعرفش راحت فين، والعيال أهو واحد فى السجن وبنت إتجوزت فى مصر والثانية إتجوزت واحد ليبى وما أعرفش عنها حاجة.
- أنا عاوز أشوفك ياعلوة ضرورى، أنا حا أجيلك السويس.
- خطوة عزيزة ياباشمهندس..
...
وقد كان... أخذت له هدية معتبرة وذهبت وقابلته فى السويس وأخبرته عن رغبتى فى لقاء أحد البلطجية فى حى الأربعين، وقال لى
-- ياباشمهندس العيال دى مجرمين قوى، يمكن يؤذوك، ويمكن يخافوا منك
- أنا على العموم مستعد أعطيهم فلوس عشان أتكلم معاهم
- جرى إيه ياباشمهندس إنت بتكتب كتاب ولا إيه، ما أنا سمعت من الحاج يحيى والمعلم مصطفى إنك بقيت بتكتب فى الجرايد
- أيوه أنا عاوز أعمل تحقيق صحفى مع واحد بلطجى
- هو فيه واد إسمه شحتة المقص، كان زميل الواد حنفى إبنى فى السجن، وهرب من سجن وادى النطرون فى الهوجة بتاعة الثورة، وكان واخد تأبيدة، يعنى مش ممكن يسلم نفسه تانى، عشان كده بقى واد آخر إجرام وعامل فردة على أهل الحى والبوليس مش عارف يمسكه خالص.
- أهو ده كويس قوى، وده ياخد كام عشان نتكلم معاه
- مش حياخد كثير وأكيد حيعمل حساب للأخوة وزمالة السجن مع إبنى حنفى.
...
وإرتديت ملابس متواضعة جدا (ملابس عشوائيات) وذهبت مع (على) إلى أحشاء حى الأربعين بالسويس، ورأيت العشوائيات على أصولها، رأيت عشش مكدسة فوق بعضها والمفروض أنها مساكن، ورأيت الأطفال حفايا وأشباه عرايا يلعبون فى مياه المجارى، والرائحة لا تطاق ورأيت أكواما من الزبالة يرتع فيها الأطفال والقطط والكلاب والفيران فى هارمونى عجيب ولا هارمونى السيمفونية التاسعة لموتسارت. ومشينا فى حارات ضيقة عليها مبانى عالية من الطوب الأحمر، ولو تمتعطت قليلا فربما تستطيع ملامسة جانبى المبانى، وحاولت أن أغطى أنفى لكى أخفف من تأثير الروائح الفظيعة، وخشيت أن يلاحظنى أحد فيعرف أننى غريب عن الحى، ورأيت أن التوك توك والميكروباس هما وسيلة النقل الوحيدة، ولاحظت الغياب الكامل للحكومة المصرية سواء من حيث الوجود الخدمى أو التواجد الأمنى، ورأيت لافتات من نوع: quot;الإسلام هو الحلquot; ، quot;الحجاب قبل الحسابquot; ، quot;النقاب رمز العفافquot; ، quot;الأهلى حديدquot; ، quot;زمالك يامدرسةquot; ، quot;دعاء دخول السوقquot;، quot;طبق كشرى بنصف جنيهquot; ... إلخ
وأخيرا وصلنا لبيت شحتة المقص، وكان يسكن بالدور الأرضى فى بيت مكون من دورين، وفتح الباب عندما ناداه على من الحارة:
- أيوة إفتح يا مقص أنا على أبو حنفى المدب!
ورأيت شحتة المقص وجهها لوجه.. طول بعرض ولا تمثال رمسيس وبذقنه غير المحلوقة ويضع طاقية صوف خضراء مضلعة ويكبسها فوق إذنيه، لا بسا جلبابا كستور ويبدو أنه كان نائما، وعندما فتح فمه ليتكلم ظهرت أسنانا بنية من أثرالسجلئر والقهوة، كما ظهر أيضا إختفاء بعض الأسنان،وأثر جرح عميق أسفل الرقبة.
- إتفضلوا، إزيك ياعم على، وأخبار حنفى إيه، ليه وحشة والله؟
- والله ما بأسمعش منه.. بقى لى ييجى سنتين مازورتهوش، أنا مش عارف ليه ماهربش معاك يوم الهوجة بتاعة الثورة؟
- حنفى طيب وكان خايف البوليس يضرب فى المليان، وقال لى كلها سنة ونص وطالع، إنما أنا كان ضرورى أهرب، تابيدة بقى ياعم على، وده مين الإستاذ إللى معاك؟ أى خدمة خناقة.. تنفيذ أحكام ... عربية مسروقة ... سرقة أراضى ... بت مخطوفة ... بس إوعى تكون مباحث، يبقى مش حتطلع من هنا.
- عيب ياشحتة، أنا برضه حا جيب معايا مباحث لغاية بيتك. ده الإستاذ صحفى وعاوز ياخد حديث معاك.
- بس إوعى يكون بيشتغل مع التليفزيون المصرى؟ ناس مفتريين، كل لما تحصل حاجة فى البلد عاوزين يلبسوها للبلطجية.
وأخيرا وجدت الجرأة على الكلام:
- أنا كنت عاوز أعرف إزاى بدأت الشغلانة دى؟
- إيه مالها الشغلانة دى، أنا باكل من عرق جبينى.
- أيوه إزاى بدأت؟
- أنا أتولدت هنا فى حى الأربعين، فى نفس السنة إللى إتقتل فيها السادات، ودخلت المدرسة هنا ويادوب بأعرف أفك الخط وأعد الفلوس.
- يعنى سبت المدرسة وإنت صغير؟
- أنا يادوب كملت الإبتدائى، وكنت بأكره المدرسة موت، أبويا كان عجلاتى، لما شاف إنى مش نافع فى المدرسة خدنى معاه المحل، وفى يوم لقيت عجلة راكنة جنب محل عم حسنى البقال، فخدتها على المحل ولما أبويا شافها ضربنى علقة وراح مرجع العجلة لعم حسنى، وقال لى لو عايز تسرق ما تسرقش من الأربعين، روح حى الأفرنج.
- ومن ساعتها بدأت أخرج برة الأربعين ألقط رزقى.
- تلقط رزقك إزاى يعنى؟
- يعنى أسرق عجلة من هنا وساعات كنت أروح أبيعها لحسابى من ورا أبويا، ولما أبويا إكتشف الحكاية طردنى من المحل ومن البيت
- وبعدين عملت إيه؟
- فى الوقت ده كنت إتلميت على الواد حسن الموس، وكان أكبر منى بأربع سنين ومنه إتعلمت كل حاجة.
- أى حاجة زى إيه؟
- إتعلمت منه ضرب المطاوى، والسنج، والموس، وبعدين كان فيه عملية دخلنا على واحد مريش، ضربناه وأخدنا فلوسه، وطلع مسنود فالبوليس قبض علينا وأخدت فيها سنتين، وطلعت بعد سنة واحدة فى العيد الكبير، وفى السجن إتعلمت حاجات كثيرة قوى، كنت لسة صغير، وكنت واخد حقى بدراعى وبعدين كنت فى حماية معلم العنبر.
- ومين معلم العنبر ده؟
- ده المعلم سيد اللومانجى، كان معظم وقته فى السجن كان عنده ييجى عشرين سابقة، بس كان لا مؤاخذة ..... وأنا عجبته وخلانى أنام معاه فى العنبر، المعلم سيد ده كان أهم واحد فى السجن بعد اللواء المأمور، وكان كل الضباط والعساكر يعملوا له ألف حساب، كان قلبه ميت ما يهموش أى حاجة. المعلم سيد كان بلدياتى من السويس وعرفت منه كل رجالته وأول لما خرجت إشتغلت معاهم، وكنا بنشتغل شغل كبير، وتقريبا إستولينا على حى الأربعين
- طيب كنتو بتعملوا إيه مع البوليس؟
- ساعات كانوا بيطلبوا منا نساعدهم فى القبض على واحد قتل واحد، أكثر حاجة تضايقهم كانت جرائم القتل والإغتصاب، لأن دى بتعمل شوشرة جامدة فى الجرايد، وطول ما كنا بساعدهم كانوا بيسبونا فى حالنا.
- وإيه كان أكثر نشاط بيكسب؟
- أكثر حاجة كانت بتكسب هى شغل الشقق والأراضى.
- أزاى؟
- ناس عاوزة تاخد شقة فاضية، ناس تحط إيديها على أرض، أو ناس يكونوا أخذوا حكم بإسترداد شقة ومش عارفين ينفذوا الحكم، الفلوس فى العمليات دى كانت بالالآفات، ده مرة إستوليتا على أرض فى طريق مصر الصحرواى لحساب واحد من التقال وأخدنا فيها مبلغ جامد، وبعدين طلع صاحب الأرض راجل مهم جدا فى الحكومة، فطلب مننا إن إحنا نرجع له الأرض تانى، وحصل، وخدنا فلوس من الإتنين، كانت عملية آخر جمال، كنا زى المنشار طالعين واكلين نازلين واكلين.
- طيب إزاى أخدت حكم مؤبد؟
- كنا مرة هاجمين على شقة وكنا فاكرينها فاضية، طلع فيها عيلة وعيال وصاحب الشقة طلع علينا بالسكينة فضربنا عليه وعلى إللى فى البيت بالطبنجات، موتنا الراجل وإتنين من عياله، ودى أخدت فيها تأبيدة من خمس سنين لغاية ما هربت أول أيام ثورة يناير.
- طبعا بعد ماخرجت لقيت فرصة كبيرة فى الشغل؟
- طبعا، إحنا دلوقت ما فيش أى علاقة بيننا وبين البوليس، والبوليس مش عاوز يعمل أى حاجة، بعد العيال بتوع الثورة ما كسروا شوكته، مش عاوزين يعملوا أى حاجة، يعنى مش حيقبضوا على أى حد إلا إذا راح سلم نفسه بنفسه، وإنا بأسمع من الأهالى هنا إللى يروح يشتكى للبوليس يقولوا له: quot;خللى الثورة تنفعكمquot;! أكثر شغلنا دلوقت خطف بنات وأولاد وطلب فلوس.
- يعنى بتطلبوا كام يعنى فى الولد أو البنت؟
- طبعا مش كله: يعنى البنات أغلى طبعا، وحسب برضه مقدرة أهلهم، ما إحنا ناس بنعرف ربنا برضه!
- ونعم الناس!
- يعنى لو واحد عنده ملايين لو طلبنا منه نص مليون فى بنته أكيد حيدفع، إنما لو واحد على قد حاله، نطلب خمسين ألف ميت ألف، وكله بيدفع.
- يعنى الحالة رايجة قوى معاكم دلوقتى؟
(قبل شحتة المقص يده وش وضهر وقال)
- الحمد لله، بس مش عاوزين قر!
- طيب ما ظهرتوش ليه يوم الإنتخابات، كان ناس كثير فاكرة إنكم حتحاولوا تبوظوا الإنتخابات؟
- نبوظها ليه؟ لو كنا بوظناها كان الجيش حيخي... (كلمة بذيئة)، فإحنا قلنا، خلينا نعدى يومين الإنتخابات دول على خير و لا إننا نقلب الجيش علينا.
- فيه ناس كثير فاكرينكم بتشتغلوا مع البوليس أو مع الحزب الوطنى او المجلس العسكرى
- إحنا ياإستاذ بنشتغل لحسابنا بس، لينا إستقلالنا، ده إحنا بنفكر نعمل نقابة ومش بعيد كمان نعمل حزب!!
(وقهقه عاليا حتى بانت أسنانه البنية والفراغ بين الأسنان، وبالطبع شاركته فى الضحك!!)
- طيب ومش خايفين دلوقت لو الأخوان مسكوا الحكم، مش بعيد يقطعوا إيد اللى حيسرق، ويقطعوا رجلين وإيدين البلطجية؟؟
- تف من بقك ياراجل! على العموم إحنا ممكن نشتغل مع الجن لأزرق، يعنى الأخوان مش حيشتغلوا عن طريق نفس البوليس، خلاص نرجع تانى نقفش لهم ناس فى جرائم القتل والإغتصاب وهمه حيسبونا فى حالنا.
- يعنى ما عندكش أى قلق؟
- طبعا لأ.. مش بأقولك حنعمل حزب وحنسميه :quot;حزب الجدعنةquot;!! ويمكن ناخد أغلبية المجلس الجاى!!
- طيب هل لديك أقوال أخرى؟
(فنظر إلى على وقال له: مش بأقول لك ده باين عليه مباحث، شايف بيقوللى :هل لديك أقوال أخرى؟ فال الله ولا فالك ياشيخ)
... وناولته المبلغ المتفق عليه، وأفاجأ به يرجع لى المبلغ قائلا:
- لأ خلاص براءة كفاية إنك من طرف عم على، وبعدين إحنا عاوزين ناس متعلمة زيك تساعدنا فى موضوع الحزب!!
...
[email protected]