الشيخ أحمد البحيرى

عندما قرأت هذا الأسبوع خبر الإعتداء الإنتحارى الإرهابى الأثيم والدنئ على مستشفى فى مدينة كابول فى أفغانستان والذى راح ضحيته أكثر من 60 قتيلا وأكثر من 120 جريحا معظمهم من الأطفال والنساء والمرضى، لم أتصور خسة وإرهابا أكثر من هذا، ترحمت على والدى رحمه الله الشيخ أحمد البحيرى مدرس اللغة العربية والدين خريج المعاهد الأزهرية، وتذكرت الدروس والعبر التى تعلمتها منه، وقررت أن أشارك القراء فى تذكر تلك الدروس وأهديها خاصة للأخوة quot;الأعداءquot;من بعض القراء الذين إعتقد بعضهم أننى ولا بد أن أكون مسيحيا ما دمت أهاجم الإرهاب والمتأسلمين الذين يتمسحون بالدين والدين منهم برئ.
...
ولقد بدأت فى نشر كتاباتى فى الذكرى الأولى لجريمة 11 سبتمبر فقد نشرت رسالة نشرت فى جريدة النيويورك تايمز الأمريكية بعنوان quot;نحن نعتذرquot; وفيها إعتذرت لضحايا الجريمة الإرهابية بالنيابة عن المسلمين لأننا أنجبنا مثل هؤلاء الإرهابيين الذين أرتكبوا تلك الجريمة. ثم إستمرت كتاباتى بعد ذلك بهدف إيقاظ النائمين وكنت أعتبر نفسى مثل مسحراتى رمضان، وأريد أن أنبه إلى خطورة تلك الفئة quot;المتأسلمةquot; والتى تتخذ العنف سبيلا والتى تخترع دينا جديدا لم أكن أعرفه عندما نشأت وتشربت الدين الذى تعلمته على يد والدى رحمه الله، وتلك بعض الدروس التى تعلمتها لعل يكون فيها عبرة:
أولا: تعلمت أن العلم هو رأس المال الحقيقى لدى أى فرد وأى شعب، وكان والدى يقول لى دائما: quot;نحن لا نملك أى شئ، رأسمالنا الوحيد هو العلم، ولو فشلنا فى العلم لا يبقى لدينا أى شئquot;.
ثانيا: تعلمت أن الصحة هى تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه سوى المرضى، وكان والدى يحرص على الرياضة البدنية وكان يمارس الرياضة البدنية يوميا فى البيت بعد صلاة الفجر وكان يسبح فى الصيف، وكان يشجعنا على ممارسة الرياضة بكل أنواعها. وأيضا كان التدخين ممنوع مطلقا فى منزلنا سواء للساكنين أو الزائرين، وبفضله لا يوجد أى فرد من أفراد أسرتنا القريبة أو البعيدة يدخن.
ثالثا: تعلمت منه أن الوقت هو كل ما سوف نخرج به من الدنيا، وأى إضاعة للوقت سوف نحاسب عليها فى الدنيا قبل الآخرة.
رابعا: تعلمت منه إحترام العمل والدأب عليه، فكنت أراه يعمل الساعات الطوال فى مدرسة المنيرة الإعدادية للبنين، ثم يجلس بعد صلاة المغرب يحضر لدروس الغد، ويذاكر لنفسه الدروس التى سوف يلقيها على تلاميذه فى اليوم التالى، وظل يعمل هذا بدون إنقطاع لمدة 40 سنة وبدأب عجيب.
خامسا: تعلمت منه إحترام المرأة وكان يكرر دائما رفقا بالقوارير، وكان يقسو على أخوانى الصبيان ولكنه لم أشاهده يقسو على أخواتى البنات، وظل وفيا لزوجته حتى مماته ولم يفكر مجرد التفكير فى الزواج بأخرى ولم يخترع الحجج لزوغان عين الرجال فى مسميات مثل زواج المسيار وزواج المتعة وغيره.
سادسا: تعلمت منه أن الأسرة هى أهم وحدة فى المجتمع وإذا صلحت الأسرة يصلح كل المجتمع، وتعلمت منه التضحية فى سبيل الأسرة، كان يقول لى دائما أنه مستعد لأن يبيع هدومه من أجل أن أكمل تعليمى، وكان دائما معنا لم يكن له سوى عمله وأسرته وأعماله التطوعية الخيرية.
سابعا: رغم أننا لم يكن لدينا أى فائض من المال، إلا أن والدى كان يقتطع من قوته ليساعد من هم أفقر منا، وكان يعمل هذا بنفس راضية وفى السر معظم الأحيان. هذا بالإضافة إلى فريضة الزكاة، لذلك تعلمت منه بأن إعادة توزيع الثروة فى المجتمعات هو الوسيلة المثلى لتماسك تلك المجتمعات.
ثامنا: تعلمت منه أن الصدق منجى (وليس منجة)!! و أن الكذب هو بوابة الشرور.
تاسعا: تعلمت منه الأمانة فى المعاملة والوفاء بالوعد وكان لا يعد إلا ما يقدر علي الوفاء به.
عاشرا: تعلمت منه الإستمتاع بالحياة فكان يأخذنا فى بعض الصيفيات من مدخراته القليلة إلى مصيف رأس البر حيث كنا نستمتع بالبحر والهواء والجو الريفى الجميل وكان يسبح معنا فى بحر رأس البر وكان يرتدى مايوها وكان يشترى لنا مايوهات ولم ننزل البحر أبدا بالجلاليب!!
حادى عشر: تعلمت منه كرم الضيافة، فكان منزلنا فى حى مصر القديمة بالقاهرة أشبه بفندق الكلوب الزينيبى فى حى السيدة زينب، فكان أقاربنا من قريتنا عندما يحضرون إلى القاهرة كانوا يتوجهون مباشرة إلى منزلنا، وبالرغم من ضيق شقتنا التى لم يكن بها سوى غرفتين نوم، إلا أننا كنا نتدبر أحوالنا، وكان الزوار على فقرهم يحضرون معهم الفطير المشلتت والدرة المشوى والزبدة الفلاحى!!
ثانى عشر: تعلمت منه حب القراءة وحب الشعر والأدب، وكان يكتب شعرا معظمه شعر مناسبات وشعر مدح للرسول، وكان لدينا مكتبة قرأت بها شعر أبى العلاء والمتنبى وأبى تمام واحمد شوقى وحافظ إبراهيم، كما قرأت العقاد والمازنى ويحيى حقى والجاحظ وأحمد أمين وسيد قطب، وكان والدى يهدينى مكتبة الأطفال والتى كان يصدرها كامل الكيلانى،وفيها قرأت وانا طفل: سندريلا واطفال الغابة والزنبقة السوداء والأميرة النائمة وغيرها من كتب تلك المجموعة الجميلة بألوان غلافها الزاهى والذى مازلت أذكره.
ثالث عشر: تعلمت منه الإعتناء بالمظهر، وكما ترى فى صورته المنشورة هنا تجد لحيته مهذبة، ودائما ملابسه مغسولة ومكوية، ودائما يتعطر.
رابع عشر: تعلمت منه أن الضحك أفضل علاج وكان يحكى لنا بعض النكت والطرائف الأزهرية كما كان يحكى لنا قصص جحا وأشعب، وأذكر أن أفضل طرفة سمعتها منه كانت عن أخى الأكبر وكان يعلمه حفظ القرآن عندما طفلا فى السابعة، وذات يوم زار بيتنا شيخ أزهرى صديق لوالدى وأراد والدى أن يفتخر بإبنه أمام صديقه وكيف يتعلم حفظ القرآن فى هذا السن الصغير، فجاء أخى وكان خجولا جدا، وسأله صديق والدى:quot;ماذا ستسمعنا ياشيخ مصطفى؟quot; فأجاب أخى بصوت منخفض :quot;سورة طهquot;، وبدأ فى قراءه سورة طه بصوت خجول وغير مسموع: quot; بسم الله الرحمن الرحيم. طه. مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى. إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى...quot; فقاطعه صديق والدى الشيخ الأزهرى ضاحكا:quot; يابنى بالشكل إللى بتقرأ بيه دى مش سورة طه، دى سورة النازعات!!quot;
خامس عشر: تعلمت من والدى أن محبة الناس والقناعة كنوز لا تفنى، وأن الكراهية لا مكان لها فى قلب المؤمن.
سادس عشر: تعلمت منه المساواة بين الطبقات وبين الناس، فكان يحترم الخادم نفس إحترامه للسيد، ولم يحقد على الأغنياء لغناهم أو يحتقر الفقراء لفقرهم، وكان دائما يقول أن الغنى هو الله، لذا كان يساوى فى المعاملة بين الغنى والفقير.
سابع عشر: تعلمت منه أن الخلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية، كنت أناقشه فى أهم الأشياء وأسأله أهم الأسئلة وأنا صبى مراهق، أسئلة من نوع :quot;من خلق اللهquot;، وكان يناقشنى بصدر رحب وبعقل مفتوح، وأذكر مرة أننى كدت أغلبه فى نقاش ما، فما كان منه أن قال لينهى النقاش: quot;إنت صليت العصر؟quot; فقلت له:quot; لأquot;، فقال لى:quot;يلا قوم صلى وبعدين نكمل كلامquot;، ولم أذكر أننا أكملنا النقاش!!
....
ووالدى لم يكن ملاكا وكانت له أخطاء كثيرة ولكنى هنا أسرد ما تعلمته منه، وايضا هناك أشياء لم أتعلمها من والدى، وهى على سبيل المثال لا على سبيل الحصر:
أولا: لم يعلمنى كيف ألبس حزام ناسف لأقتل نفسى وأقتل الآخرين بدعوى شهادة زائفة.
ثانيا: لم أتعلم منه كراهية الآخرين لمجرد أنهم خالفونى فى الدين أو العقيدة أوالرأى، فلم يحرم علينا قط شراء الدواء من الصيدلية أسفل منزلنا لصاحبها الدكتور وليم المسيحى والرجل الفاضل والذى كنا نعتبره طبيب الحى حيث كان يعطى الإستشارة الطبية المجانية لكل سكان الحى، وكان يسكن بيننا فى العمارة المجاورة لنا وأعتقد أنه كان المسيحى الوحيد فى شارعنا.
ثالثا: لم أتعلم منه أن أربى ذقنى أو ألبس جلبابا قصيرا، ولم يفرض علينا أى زى، كان يعتبر تلك أشياء شخصية حتى لو كانت من السنن.
رابعا: لم أتعلم منه فرضية النقاب أو الحجاب، فشقيقاتى وبناتهن لم يتحجبن ألا فى العصر الحديث عصر quot;الدين الجديدquot;، حيث أصبح الحجاب والنقاب هو أهم شئ فى الإسلام.
خامسا: لم أتعلم منه الفصل بين الرجال والنساء فى المجالس، فكان الناس يحضرون إلينا رجالا ونساء وكان والدى يسلم على الرجال وعلى النساء (الشئ الوحيد أنه كان أحيانا يسلم على النساء بمنديل للحفاظ على وضوئه). ولم يعتبر أن صوت المرأة عورة حيث كان يستقبل نساء الحى والأقارب يستمع لمشاكلهن.
سادسا: لم أتعلم منه الخلط أبدا بين الدين والسياسة، وكان يقول أن للسياسة رجالها وأن للدين رجاله، والدين ثابت والسياسة متغيرة، وكان يعتبر نفسه رجل دين لذلك لم ينضم فى حياته إلى حزب سياسى ابدا، ولكنه كان عضوا عاملا بإحدى الجمعيات الخيرية التى كانت تبنى المساجد والمستوصفات للفقراء، ولم يستخدم منبر المسجد لإلقاء خطب سياسية.
سابعا: لم أتعلم منه أبدا الإستسلام للدجل أو الشعوذة تحت مسميات دينية، فكنا إذا مرضنا نذهب للطبيب وكان لنا إشتراك سنوى فى مستشفى مبرة محمد على فى مصر القديمة، ومرة كسرت ذراعى وأنا طفل فى قريتنا، ولم يكن هو موجودا فإخذنى بعض الأقارب إلى quot;مجبراتىquot; فى قرية قريبة، فإستاء والدى جدا وأمر أخوتى الكبار أن يأخذونى إلى الطبيب فى القاهرة.
...
وأنا هنا أنشر صورته لكى أتذكره ويتذكره من يرونه وربما يقرأون الفاتحة على روحه.
ومما يحزننى كثيرا هذه الأيام وأنا أقرأ الفاتحه على روحه أن بعض حفيداته وأحفاده لم يأخذوا عنه سماحته وإعتداله وأعتقدوا أن التدين يعنى التشدد فى كل شئ.
رحم الله والدى كان من quot;السلفquot; الصالح حقيقة، وليس مثل بعض quot;سلفيينquot; هذه الأيام الذين تملأ الكراهية والحقد قلوبهم على كل من خالفهم، والذين ينطبق عليهم المثل البلدى:quot;السلف تلف... والرد خسارةquot;!!
[email protected]