قابلته يمشى فى شارع الهرم له ذقن سوداء كثيفة وغير مرتبة، ويبدو أنه لم يحلقها منذ سنوات، يرتدى جلبابا قصيرا إلى نصف قصبة الرجل وأسفل الجلباب يظهر بنطلون باكستانى لم أتبين لونه الأصلى من تراكم الأتربة عليه، يمتد كرشه أمامه مسافة نصف متر على الأقل بحيث أشك تماما أن بإستطاعته أن يهرش مابين فخذيه إن أراد بسبب هذا الكرش، يضع على رأسه عمامة غريبة الشكل، فلا هى عمامة أزهرية ولا هى رداء رأس خليجى، ولا هى عمامة طالبانية أو أفغانية ولكنها خليط غريب من كل هذه العمائم وكأنه يريد أن يقول أن أتباع الدين الإسلامى quot;الجديدquot; قد قاموا بتوحيد غطاء الرأس فى هذا الشكل الغريب والغير مألوف، وتوحيد غطاء الرأس هى أولى خطوات توحيد quot;الأمةquot;، فأمة بلا غطاء رأس موحد سواء للرجال أو للنساء هى أمة لا هوية لها!!
لم أستطع تخمين عمره بالضبط، فمن ذقنه الشديدة السواد أستطيع أن أقول أنه دون الثلاثين من العمر، ومن كرشة العظيم أستطيع أن أقول أنه فوق الأربعين (فأنا شخصيا لم يظهر لى أى كرش إلا بعد تجاوزى الأربعين بكثير)، ويمكن أن نأخذ المتوسط ونقول أنه ربما فى سن ال 35، وكان يتصبب عرقا من تأثير حر القاهرة فى عز صيف يونيو وكان يجفف عرقه بمنديل كلينكس، ومن حين لآخر كان يخرج تليفون موبايل وكأنه ينتظر مكالمة أو رسالة خطية، وكان يحمل على كتفه شنطة طويلة سوداء وخشيت أن يكون بها مدفع رشاش، وبينما أنا أتأمله فوجئت به يقترب منى وسألنى بأدب:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته-
وعليكم السلام-
- تعرف أتوبيس كام بيروح الهرم
طيب ما أنت فى شارع الهرم -
- لأ.. أنا أريد الذهاب إلى أهرامات الجيزة
الحقيقة ما أعرفش رقم الأتوبيس، لكن ممكن تاخد ميكروباس-
نقودى لا تكفى إلا لأتوبيس -
(فقلت له بتوجس، والحس الصحفى لدى يرغب فى معرفة ما داخل تلك الشنطة السوداء الطويلة)
- أنا رايح فندق مينا هاوس وهو قريب من أهرامات الجيزة، ممكن تيجى معايا
- جزاك الله خيرا، لكن إياك أن تكون من رجال المباحث
- مباحث إيه بقى... إنتو خليتوا فيها مباحث، بعد إنضمامكم للثورة، إنتو أخدتوا دور المباحث!!
(فضحك ضحكة عالية إهتز لها كرشه بعنف وظهرت صف أسنانه البنية ماعدا ناب علوى وسنة سفلية)
ومشينا سويا إلى سيارتى، (وأنا أقول لنفسى:quot; إيه أنا بأهببه ده إزاى حآخد الراجل ده معايا فى العربية!!)
وعند السيارة سألته:
- هل تحب أن تضع الشنطة إللى معاك وراء فى شنطة العربية
لأ أشكرك (وأصر على أن يبقى تلك الشنطة معه وفى حضنه داخل السيارة) -
وأنطلقت بالسيارة فى زحام شارع الهرم الفظيع وحر نهار صيف القاهرة الأشد فظاعه، فكان لا بد من تشغيل مكيف السيارة
جزاك الله خيرا، ما أجمل التكييف فى السيارة، سبحان الله قادر على كل شئ -
- التكييف من إختراع عالم أمريكى أسمه الدكتور ويليس كاريير، هيا نقرأ الفاتحة على روحه.
- فاتحة!! إلى جهنم وبئس المصير هو وكل الأمريكان الكفار!
- أيوة يا... هو أسم الكريم إيه
- أنا أبو قتادة!
- أبو فصادة؟؟
- فصادة إيه ياباشمهندس، أنا أسمى أبو قتادة
- يعنى عندك إبن أسمه قتادة؟
- لأ.. هذا أسم صحابى جليل من الأنصار الحارث بن ربعي، وكان يكنى بأبى قتادة، وأنا أتبارك بإسمه
- أيوه لكن أسمك الحقيقى إيه؟
- ماذا تريد من أسمى الحقيقى، أنا عارف شكلك كده مباحث!
- خلاص ياعم أبو قتادة مش عاوز أعرف أسمك الحقيقى، أما أنا فاسمى: إبن حلزة!!
- تشرفنا يا إبن حلزة
- كنت بأقولك يعنى لولا إختراع الأمريكى كاريير للتكييف، والأمريكى فورد للسيارة كان زماننا دلوقت راكبين جمل وبنشر عرق ونوصل أهرامات الجيزة بعد بكرة
- أنا أعرف ماذا تريد أن تصل إليه، ولكنى لن أقرأ الفاتحة على كافر، هؤلاء الكفار قد سخرهم لنا الله سبحانه وتعالى نحن معشر المسلمين لكى نستفيد بعلمهم، مش الأخ مسلم برضه
- آه الحمد لله.
- الحمد لله على نعمة الإسلام، أنا كنت فاكرك واحد من إياهم!
- أنا عندى سؤال محيرنى، ياترى فى إيه فى الشنطة دى؟
- يعنى حيكون فيها إيه؟ مدفع رشاش طبعا؟
فنشف الدم فى عروقى وأنا أسأله:
- بجد فيها مدفع رشاش؟
فوجدته قد ضحك ضحكة عالية إهتز لها كرشه مرة أخرى وأهتزت السيارة بأكملها:
- إنت صدقت؟ ما هو إنتو كده ياأفندية فاكرين كل واحد بذقن وجلباب قصير يبقى إرهابى؟
- لا.. لا سمح الله
(وبدأ فى فتح سوستة الشنطة، وأخرج منها معول ومرزبة وأزميل حديد وكلها أدوات تستخدم فى الهدم، ثم أخرج جالون بلاستيك صغير مملوء بسائل شفاف)
- إيه ده كله يا أبو قتادة؟
- المعول والمرزبة والأزميل لزوم التكسير والهدم، أما هذا جالون بنزين لزوم الحريق إن لزم الأمر
- هدم إيه وحريق إيه كفا الله الشر، إنت ناوى تحرق كنيسة تانية ولا إيه ؟؟مش كفاية
- لأ... حرق الكنائس ليس تخصصى، هذه إدارة أخرى فى التنظيم!
- تنظيم إيه وإدارات إيه إنتم مين بالضبط؟
- من أول ما شفتك وأنا أشك فيك، بتسأل ليه الأسئلة دى كلها، خلاص خلينى أنزل آخد أى أتوبيس
- هدى أعصابك بس يا أبو قتادة مش كده، طيب قل لى حتعمل إيه بالحاجات دى كلها وإنت بتشتغل فى أى إدارة
- أنا نائب رئيس إدراة هدم وحرق الأضرحة
- وياترى لغاية دلوقت حرقتم كام ضريح؟
- الأرقام النهائية ليست فى حوزتى الآن، ولكنى شخصيا حرقت ضريح فى كفر الشيخ وضريح فى الفيوم
- طيب البوليس ما كانش موجود؟
- بوليس إيه ياإستاذ إبن حلزة، البوليس خايف مننا!!
- بس موضوع حرق الأضرحة يبدو أنه وقف شوية.
- وقفوا حالنا ألله يوقف حالهم
- مين دول؟
- الصوفية والأزهر قاتلهم الله، إنت عارف إحنا كنا رايحيين ومتجهين رأسا لحرق ضريح الحسين
- الحسين حتة واحدة، وإيه إللى حصل؟
- مشايخ وعلماء الصوفية (قاتلهم الله) بمعاونة الأزهر وقفوا لنا بالمرصاد، فجاءتنا تعليمات من أمير الجماعة بإيقاف التنفيذ إلى حين.
- طيب ده إنت بالشكل ده تعتبر دلوقت عاطل عن العمل؟
- آه والله، ما تعرفش حد عاوز يهدم حاجة أو يحرق حاجة؟
- لا والله ما كانش يتعز، أنا مهندس للبناء وليس للهدم والحريق.
- لكنى لم أسكت، واليد البطالة نجسة
- إيه خير حتعمل إيه؟
- أنا رايح أهدم أكبر ضريح فى تاريخ البشرية
- إيه ضريح مين ده؟ السيدة زينب؟
- لأ.. سيدة زينب إيه؟ أنا رايح أهدم ضريح الفرعون الأكبر خوفو!!
(ولم أتمالك نفسى من الضحك)
- بقى إنت رايح تهدم هرم خوفو بالأزمة والمرزبة والأزميل دول؟
- أيوة وياريت تيجى معايا تساعدنى!
- إنت عمرك شفت هرم خوفو، إنت عارف مقاسه أد إيه
- لأ أنا من كفر الشيخ ودى أول مرة أشوف فيها الأهرامات، ولكن مهما كان مقاس هرم خوفو سوف أهدمه بمشيئة الله الذى لا تعلو مشيئته مشيئة.
(ونظرت إليه وأنا أرثى لحاله تارة... وأشفق على البلد من وجود ناس بتلك العقليات أصلا على وجه الأرض)
وبعد معاناة مرورية قاهرية ومعاناة مع حر يونيو وصلنا إلى فندق مينا هاوس، وبالرغم من أننى لم أكن أنوى زيارة هرم خوفو إلا أننى قررت ألا يفوتنى منظر أبو قتادة وهو يصل إلى هرم خوفو ويرى حجمه الحقيقى، لذلك قلت له:
- بص ياأبو قتادة... رغم إنى مش موافق على إللى بتعمله، أنا قررت أطلع معك لغاية هرم خوفو، ومش بعيد إنى أقدر اساعدك فى هدم الهرم لو قدرت تقنعنى بفائدة هدم الهرم.
- إنت عارف إن الهرم ده مجرد ضريح للفرعون خوفو، ولا..لأ؟
- أيوة عارف
- وعارف كمان إن فيه ناس مجانين بتيجى من أمريكا وأوروبا عشان يعبدوا ويتباركوا بالهرم ده؟
- والله مش متأكد، أنا أعرف إن فيه ناس كتير فى أنحاء العالم معجبة بالهرم من حيث ضخامته ودقةإنشائه رغم الأدوات البدائية اللى إتبنى بيها.
- المهم هذا ضريح ومجرد مدفن وفى الشرع الإسلامى ليس من المفروض أن يعلو المدفن عن سطح الأرض أو توجد عليه أية شواهد للقبور، أو كما قال شيخ الإسلام إبن تيمية....
وما أن وصلنا إلى هضبة الهرم إلا ووجدت أبو قتادة يبسلم ويحوقل ويدعو الأدعية:
- سبحان الله... بسم الله ما شاء الله والله أكبر... قادر على كل شئ... علم الإنسان ما لم يعلم!
- إيه رأيك يا أبو قتادة؟ حتقدر تهدم الهرم لوحدك ولا محتاج مساعدة؟؟
- أهدم إيه يا إستاذ.. أنا كنت فاكره بحجم ضريح سيدى أبو السعود الجارحى إللى فى مصر القديمة!
- ونظر أبو قتادة مرة أخرى إلى ضخامة الهرم وإلى ضآلة المعول الذى أحضره معه لهدم الهرم وقال:
- على أى الأحوال أنا إثباتا لموقفى المعارض لوجود هذا الضريح سأذهب إلى ركن منه وأضرب ضربة واحدة وهى أضعف الإيمان.
وتركته يذهب لوحده وبالفعل أخرج معوله، وضرب ضربة واحده على أحد أحجار الهرم الضخمة فى الركن الغربى، ورآه أحد رجال الشرطة الحراس، الذى طارده قائلا:
- إنت ياراجل يا مجنون بتعمل إيه؟
ورأيت أبو قتاده يترك معوله والشنطة السوداء التى كان يخبئ بها أدوات الهدم، ثم يضع ديل جلبابه فى أسنانه ويطلق ساقيه للفرار ولا أسرع نعامة رغم كرشه الأعظم، ورأيته يتجه نحوى، وبدون تفكير وجدتنى أجرى معه هربا من رجل الشرطة والذى إستمر يجرى ورآنا نزولا من الهرم بإتجاه مينا هاوس!
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات