وأخيرا قرر النائب العام فى مصر تحويل حسنى مبارك ونجليه إلى محكمة الجنايات، وأعتقد أن هذا قد تم تحت تأثير ضغط الرأى العام فى الصحافة ووسائل الإعلام المصرية والتى أصبح معظمها فى أيدى القومجية والإسلاموية والسلفجية (هذا لفظ جديد على أدعياء السلف، وأعتقد أن من حقى أن احصل على حق إختراع للفظ السلفجية والذى لم أقرأه من قبل).
وأنا حقيقة أؤيد محاكمة حسنى مبارك محاكمة عادلة، ولكن اين العدل أمام مشاعر الإنتقام التى تجتاح مصر، وأين العدل أمام الإشاعات التى تنتشر عن ثروات خرافية غير حقيقية، وأين العدل عمن خرجوا من الجحور والسجون للثأر، وأين العدل والحكومة المصرية الحالية بما فيها وزير العدل والنائب العام تتخذ قراراتها طبقا لعدد المتظاهرين فى ميدان التحرير، وأين العدل فى بلد على شفا ثورة الجياع أو على شفا حرب أهلية دينية أو الإثنين معا؟؟؟
فى البلاد المتقدمة (الشر برة وبعيد) عندما يكون هناك مجرما أجرم جرما كبيرا قد يؤدى إلى إعدامه، ومن فظاعة الجريمة تجد أن الرأى العام والصحافة وكل وسائل الإعلام تشحن الناس ضد هذا المجرم قبل البدء فى المحاكمة، لذلك يحرص الدفاع عن المتهم على نقل تلك المحاكمة إلى ولاية أخرى أو مقاطعة أخرى بعيدا عن هيجان الرأى العام فى تلك المدينة التى أرتكبت فيها الجريمة والذى قد يؤثر على أحكام القضاء نظرا لصعوبة إقرار العدل فى وجود أجواء الإنتقام، وغالبا ما ينجح محامى المتهم فى نقل المحاكمة أمام محكمة تكون أبعد ما يكون عن مكان وقوع الجريمة، ومن هنا جاءت دعوة مقال رائع قرأته فى إيلاف يطالب فيه الكاتب بمحاكمة حسنى مبارك أمام محكمة دولية وذلك ضمانا لنيله محاكمة عادلة.
وإلا بالله عليكم خبرونى أين هذا القاضى الذى يمكن أن يحكم ببراءة حسنى مبارك فى تلك الأجواء المحمومة بالإنتقام والثأر وتحت تأثير مظاهرات ميدان التحرير؟؟،وقد يثور أحد القراء فى وجهى: quot;هل معقول أن حسنى مبارك يطلع براءةquot;؟؟، وهذا بالضبط ما أعنيه، فإن النائب العام عندما يحيل متهما إلى المحكمة فإن إحتمالات الإدانة واردة كما أن إحتمالات البراءة واردة، بل إن أى شك فى الأدلة يفسر لصالح براءة المتهم، والمتهم برئ حتى تثبت إدانته، ولكننا أمام جمهور متعطش للإنتقام وللدماء يريد أن يعلق حسنى مبارك ونظامه على أعمدة النور فى ميدان التحرير، وأن الدمية التى علقها المتظاهرون وبقيت طويلا فى الميدان ما هى إلا تعبير عن مشاعر وأمانى هؤلاء المتظاهرون لإعدام مبارك.
وهناك فئة من الشعب وأعتقد أنها فئة قليلة قد قررت إعدام حسنى مبارك قبل محاكمته بل وقبل التحقيق معه، وعندما أصدر حسنى مبارك خطابا صوتيا يدافع فيه عن نفسه وعن أسرته هاجت الدنيا وماجت: كيف يجرؤ مبارك على أن يدافع عن نفسه وعن أسرته؟؟، وعندما وضع تحت الحراسة فى المستشفى هو وزوجته هاجت الدنيا وماجت كيف نضعهم فى المستشفى يجب أن يودعوا فى السجن حتى بدون محاكمة!!، وعندما ظهرت إشاعة أن حسنى مبارك سوف يرسل رسالة إعتذار للشعب ويطلب العفو والمغفرة هاجت الدنيا وماجت، لا quot;إعتذارquot; ولا quot;عفوquot;، ولست أدرى من أين جاء الشعب المصرى الطيب العطوف بتلك القسوة فجأة، هل يحاول الإنتقام ممن ظلموه عبر آلاف السنين فى شخص حسنى مبارك؟ وحتى لا ننسى حسنى مبارك كان رئيسا لمصر لمدة 30 عاما، وتاريخه ليس أسود كله بل أؤكد أن حسناته أكثر من سيئاته، وأن أى ظلم يقع عليه سوف يكون سبة فى تاريخ مصر كلها، العدالة بدأت من مصر الفرعونية ويجب أن تظل هنا، والعدالة هى ظل الله على الأرض.
إن التعطش للدماء ليس له نهايه وقد يكون إدمانا، ولهذا تجد أفلام مصاصى الدماء إقبالا من عامة الناس، لأن الإنسان بطبعه يوجد به جزء شرير متعطش للدماء وللثأر والإنتقام، وهؤلاء الذين يطالبون اليوم بتعليق المشانق لحسنى مبارك وأسرته، لن يكتفوا بهذا فسوف ينقلبون بعد هذا على المجلس العسكرى، ثم ينقلبون على الثورة نفسها وكما يقولون فإن الثورة تأكل أبناءها، وربما يجئ اليوم الذى يطالبون برأس quot;وائل غنيمquot; أحد مفجرى الثورة والمحرضين عليها فهاهم يتهمونه بالماسونية (رغم أن %99 من الذين يرددون تلك التهمة لا يعرفون معنى الماسونية!!)، ثم هو متزوج من أمريكية،وقرأت إشاعات أخرى أنه أخوانجى!! وإذا علقت المشانق بناء على الإشاعات فلن يبقى أحد لكى يتولى حكم مصر.
وأما الثورات فهى عموما تجئ أمام منعطف تاريخى، أما أن تهدم القديم تماما كما فعلت الثورات الفرنسية أو الروسية أو الإيرانية ثم تبنى شيئا جديدا تماما، وهذه الثورات كما هو ثابت تاريخيا بدون إستثناء أكلت أبناءها بل وقامت بإعدام أو سجن مفجرى تلك الثورات، أو تفعل مثل ثورات بولندا وأوكرانيا ورومانيا وغيرها من ثورات شرق أوروبا فقامت بالبناء على النظام الموجود بعد تعديله تعديلا جذريا بدلا من هدمه، فتقدمت للأمام.
فالخيار أمامكم يا ثوار يناير إما الإستمرار فى الإنتقام والهدم الشامل ثم إعادة البناء (لو كان فيكو حيل وقتها)، أو عمل تعديلات جذرية على القائم وإستكمال البناء، وهذا يبدأ بمحاكمة عادلة لحسنى مبارك، وأنا كنت أتمنى أن أكون محاميا لكى إدافع عن حسنى مبارك، ليس لأننى كنت من مؤيديه ولكنى بالرغم من أننى كنت من معارضيه معظم الوقت إلا أننى مؤمن بأحقيته فى محاكمة عادلة، وهذا ما لا توحى به المقدمات حتى الآن.
ومحاكمة حسنى مبارك سرقت الأضواء من مشاكل مصر الحقيقية التى تواجهها حاليا والتى إن لم نلتفت إليها فسوف يبدأ الناس قريبا فى لعن تلك الثورة الرائعة.
[email protected]