تعّود الناس فى العالم وبالأخص فى عالمنا العربى الجميل على تأليه الشعوب، وزدنا على هذا نحن بتأليه الحكام، فرد حكامنا الجميل وصاروا يرددون على مسامعنا عبارات من نوع: الشعب العظيم، الشعب بانى الحضارات، بلدنا مهد التقدم، خير أمة أخرجت للناس وإلخ هذه العبارات التى تبعث فى نفوس تلك الشعوب شعورا كاذبا بالنرجسية، وبأننا أجدع ناس وبأننا دهنا الهوا دوكو،وهى عبارات تبعث على الفخر ووتجعل تلك الشعوب تنظر دائما إلى الماضى العريق والذى ألهى تلك الشعوب عن واقعهم المؤلم ومستقبلهم المظلم.
وكلمة الشعب أصبحت كلمة مقدسة، حتى أنه فى بعض البلاد التى كانت أو لا زالت تحت الحكم الشيوعى فإن تهمة quot;عدو الشعبquot; تعتبر من أكبر التهم والتى تؤدى بصاحبها إلى حبل المشنقة أو ساحة الإعدام أو الكرسى الكهربائى، وهى كما ترون تهمة فضفاضة جدا ويمكن تلفيقيها لأى شخص يعارض النظام، وبقدرة قادر تتحول معارضة النظام الحاكم إلى تهمة quot;عدو الشعبquot;.
وبمناسبة تأليه الشعوب، أذكر خطبة قديمة للرئيس معمر القذافى يخاطب فيها الشعب الليبى بصراحته المعهودة والتلقائية، ويقول لهم:quot;إنتم ليش تيجيبوا حلاقين من مصر.. يعنى صعب عليكم تحلقوا لأنفسكم، وأية شعوب هذه التى لا تعرف كيف تحلق شعرها وتحتاج إلى خبراء أجانب لحلاقة الشعرquot;!
...
وبمناسبة الإنتخابات الأخيرة، ففى تقديرى أن الشعب المصرى هو المشارك الأول فى التزوير، فعزوف الشعب عن الإدلاء بصوته هو أول مراحل التزوير (أو على الأقل تسهيل التزوير)، فعلى سبيل المثال ذكر لى شخص كان من مراقبى الإنتخابات من وزارة التربية والتعليم، أنه منذ سنوات طويلة كان هناك إستفتاء على شخص رئيس الجمهورية، وكان عدد المسجلين فى تلك اللجنة الإنتخابية حوالى 500 مواطن، لم يحضر منهم أكثر من عشرين (يعنى %4) وكان صديقى هذا جديد على المسألة الإنتخابية، ثم فوجئ برئيس اللجنة (وهو شخص أكثر تمرسا) قد بدأ فى ملء التذاكر الإنتخابية ب (نعم)، ولما سأله الموظف الجديد عما يفعل، فقال له:quot;إيه رايك نعمل كده، ولا نكتب 480 محضر تغيب عن الإنتخاباتquot;. والقانون المصرى يغرم من يتغيب عن حضور الإنتخابات بغرامة مالية عن طريق محضر إثبات، ولو أرادت الحكومة المصرية أن تسدد ديون مصر فما عليها إلا تغريم المتغيبين عن الإنتخابات وسوف تحصل على ثروة طائلة!
والشعب المتغيب عن الإنتخابات هو شعب سلم إرادته لغيره، ولا يحق له أن يشتكى أو يتذمر بعد هذا. وقد يقول قائل أن الإنتخابات كانت ستزور حتى لو ذهبت نسبة كبيرة مكن الشعب، وأنا أقول أن هذا غير صحيح، فإذا فوجئ الحكام بنسبة %60 من الناس تذهب إلى صناديق الإنتخابات وتعبر عن رأيها بصراحة، فإن التزوير سوف يكون أصعب جدا، ولكن عندما تكون الصناديق فارغة فإن ملئها بأصوات مزورة يكون أسهل كثيرا.
وفى زيارة أخيرة لمصر بعد الإنتخابات الأخيرة عرفت من الأصدقاء الذين عاصروا العملية الإنتخابية أن الأصوات قد تم شراؤها بالنقود تارة وباللحمة تارة أخرى وبوعود بتعيين الأبناء فى الوظائف، وقد وصف لى بعضهم عن كمية الخرفان التى تم ذبحها فى بعض المحافظات ربما فاقت خرفان عيد الأضحى فى عددها!
...
ألم يقبل الناس غش أبنائهم وبناتهم فى الإمتحانات لدرجة تركيب ميكروفونات أمام المدارس لتغشيش الأولاد، ألم نقبل أن بعض المدرسات فى المدارس يقمن بكتابة إجابة بعض الإمتحانات للبنات فى ورق الأجابة وذلك لتسهيل نجاحهن والإنتقال لسنة أعلى من دون أن يفقهن شيئا، ألم نقبل الغش فى الميزان، ألم نقبل التهرب من الضرائب، ألم نقبل شهود الزور فى المحاكم لدرجة أنك قد تسمع عند دخولك باب المحكمة بشخص يتوقفك ويسألك:quot;شاهد يابيهquot;؟؟، ألم نقبل تعيين الناس فى الوظائف بالواسطة حينا وبالرشوة حينا آخر، ألم نقبل الكذب والنفاق اليومى فى حياتنا، فلماذا نعترض على التزويرفى الإنتخابات؟؟ نحن الذين إخترعنا التزوير فى كل شئ حتى أصبح التزوير فى الإنتخابات quot;عادىquot;
...
وبعدين تعالوا هنا،هؤلاء الموظفون الذين قاموا بالتزوير أليسوا مصريون؟؟ إنما هم يؤدون وظيفة أصبحت مقبولة فى المجتمع الذى ساد فيه الفساد والرشوة بحيث أصبحت دولة داخل الدولة، وأصبحت لا تستطيع تأدية أى عمل صغيرا كان أم كبيرا إلا إذا دفعت رشوة، بل وتم إستحداث أسماء دلع كثيرة للرشوة حتى نخفف من وقعها، مثلما زورنا فى أسماء الهزائم وأسميناها نكبة ونكسة، نحن نعيش عصر التزوير فى كل شئ، بل ووصل التزوير إلى التدين فإنتشرت مظاهر التدين فى كل مكان وفى نفس الوقت إنهارت الأخلاق وهذه هى أكبر عملية تزوير يشهدها تاريخنا الحديث، لقد سمعت هذا الأسبوع تقريرا إذيع فى الإذاعات العالمية بأن التحرش الجنسى وحوادث الإعتداء على المرأة فى مصر أصبحت وباء، كل يأتى مع إكتساح الحجاب وإنتشار النقاب، أليس الوظيفة الأساسية للحجاب والنقاب (كما يقول مريدوه) هو منع الفتنة وبالتالى الإقلال من الإساءة للمرأة، إذن فسروا لى لماذا حدث العكس، الموضوع كله تزوير فى تزوير، الحجاب تزوير والنقاب تزوير واللحية تزوير والزبيبة تزوير، ولو لم تكن كل هذه الظواهر مزورة لرأينا إنتشار مكارم الأخلاق:quot;وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاقquot;.
...
صدقونى نحن نعيش عصر التزوير، بدليل أنه عندما قررت بعض القوى الوطنية التظاهر أمام دار القضاء العالى فى القاهرة منذ بضعة أيام للإعتراض على التزوير، لم يزد عدد المتظاهرين عن بضعة مئات، من ضمن أربعين مليون ناخب مسجل على قوائم الإنتخابات، لأن أغلبية ال 40 مليون ناخب قد إشتركوا بطريقة أو بأخرى فى التزوير سواء كان تزوير الإنتخابات أو أى تزوير أو غش من أى نوع.
وحتى يمكن أن نتخلص من المرض لا بد أن نعترف أولا بأننا مرضى لأنه لا يمكن تشخيص الدواء إلا بعد أن يتم تشخيص الداء.
وأختم مقالى (إللى يغم النفس) بنكتة قديمة:
يقولون أن أمريكا قد قررت مساعدة مصر فى تثبيت الديموقراطية وفى تطوير العملية الإنتخابية، لذلك جاء المسئول الأمريكى عن الإنتخابات وقابل وزير الداخلية المصرى وقال له: إحنا بنعرض على مصر معونة فنية تتمثل فى جهاز كومبيوتر ضخم يتمكن من معرفة نتيجة الإنتخابات بعد إغلاق مراكز الإنتخابات بأقل من ثلاث ساعات، فضحك وزير الداخلية عاليا، فسأله المسئول الأمريكى: ما المضحك فى هذا؟ فقال وزير الداخلية: إحنا عندنا كومبيوتر فى وزارة الداخلية بيقدر يعرف النتيجة قبل الإنتخابات بأسبوعين!!
[email protected]