لسنوات عدة، لم يخرج من ليبيا سوى صور معمّر القذافي وأبنائه، وطبعًا الإبنة عائشة. من سيف الإسلام وأخباره الفضائحية التي تملأ الصحف إلى إبنه الآخر الساعدي، الذي أراد أن يصبح لاعبَ كرة قدم عالميًا، وهو لا يفقه في كرة القدم شيئًا، ولا ننسى هنيبعل، الذي وبفضل إعتدائه على مرافق مغربي وخادمة تونسية تم قطع علاقات ليبيا مع سويسرا.
أخبار وفضائح وتهديدات ولملمة لحكايات عن آل القذافي في سائر أنحاء أوروبا، هذا من جهة الأبناء. أما الأب فكان الوجه الإعلامي المدّعي للثورة، الخطيب الذي يتكلم.. ويتكلم، ويهاجم ويهدد العالم بالويل والثبور وعظائم الأمور. ولا ننسى طبعًا خيم القذافي، التي كان يحرص على إستعراضها أينما حلّ بحجة أنه يعاني quot;فوبيا القصورquot;.
هكذا كانت ليبيا تخرج إلى العالم، بهذه الوجوه وهذه الحكايات. أما خلال الأسبوع الفائت فللمرّة الأولى خرجت صور الشعب والشوارع وصور المدن.. سمعنا أصوات أهل ليبيا وهم يطالبون بحقوقهم وبحريتهم. يطالبون بحقهم في عدم إختزال صورتهم بصورة آل القذافي، وألا يكون صوتهم هو ذلك الصوت الذي لا قول له سوى أنا quot;ملك الملوكquot;.
لم يظن أحد أن الثورة الليبية ستكون سهلة، فالشخص الذي ثار الشعب ضده يعاني quot;جنون العظمةquot;.. جنون أثبته مرارًا ليعود في كلامه المقتبض أول أمس إلى تأكيده. quot;أنا في طرابلسquot;، يقول القذافي في كلمة لم تتجاوز الـ 17 ثانية. لم يتوقع أحد أن يخرج القذافي بجملة quot;لقد فهمتquot;، وهذا ما فعله حين خرج ليل البارحة بخطاب طويل جدًا، كادت فيه quot;الأناquot; تنفجر.
في كلمته التي لم تتجاوز الـ17 ثانية، قال إنه هنا في طرابلس، ونشر بعدها جنونه في العاصمة، قصف جوي ومدفعي ومرتزقة تجول الشوارع وتطلق النار على المتظاهرين. أما في خطابه المطوّل فقال quot;العقيدquot; إنه لم يستعمل القوة بعد، وحين يأمر باستعمالها فإنها quot;ستحرق الأخضر واليابسquot;.
quot;أنا ليبيا وليبيا أناquot; يقول القذافي، quot;أين كنتم حين حاربت من أجل تحرير البلاد، من أنتم، من تظنون أنفسكم، أنا معمّر القذافي، وأنتم حفنة من متعاطي المخدرات ومجموعة من الجرذان. كلكم خونة وعملاء وعقابكم quot;وفق القانونquot; الإعدام، سأعدمكم جميعًا لأنني أنا معمّر القذافي. لقد شوّهتم صورة ليبيا، نعم أنتم، وليس أنا. لم أجعل منكم ومن بلادكم نكتة جراء تصرفاتي الغريبة، بل أنتم تقومون بتشويه صورة ليبيا لأنكم تجرأتم وثرتم ضديquot;.
quot;سأستحضر كل الأفعال الإجرامية التي طبّقت في دول العالم وبُررت لأقول لكم إن كل هذا الإجرام العالمي نقطة في بحري، فأنا العقيد قائد الثورة الأزلي، سأقوم بأكثر من ذلك بكثير. فمن تظنّون أنفسكم، من أنتم منّي ومن أولادي ومن تاريخي ومن نضالي. أنا لست مبارك ولست بن علي، أنا لست رئيسًا، أنا قائد ثورة أزلي. من أنتم، أين كنتم، وأين كان أباؤكم حين كنت أحارب لتحرير هذه البلادquot;...
ويستمر القذافي أكثر من ساعة على هذا المنوال، ملوّحًا بيديه ضاربًا قبضته بقوة مبدلاً تظارته ومرتبًا هندامه ومستشهدًا بما قاله نجله سيف الإسلام أكثر من مرة. سيف الإسلام بدوره لم يعف الشعب الليبي من التلويح بيديه هو الآخر، فرفع إصبعه بوجه الثوار كمن يقرع أطفالاً متوعدًا ومهددًا بحرب أهلية وبأنهار من الدماء.
مشاهد مسرحية تجعلك تسأل، ما يجمع آل القذافي بالشعب الليبي؟
إفتراضيًا هم quot;أبناء بلد واحدquot;. أما فعليًا فآل القذافي مجموعة من المدللين يسيرون على خطى والد يعاني جنون العظمة، جنون إنتقل إليهم، إما بفعل الوراثة الجينية أو بفعل العشرة والتربية. عائلة أشبه بسيرك متنقل تحوّلت إلى فُرجة لأوروبا ومادة دسمة لصحفها الفضائحية، حلّوا ملوكًا وطغاة على ليبيا التي لا يعرفون منها سوى الأموال التي ينهبونها ويبذرونها في البلدان الأوروبية، لا يعرفون من ليبيا سوى كراسي الحكم والتمسك بالسلطة وإمتهان الفساد والقتل والتنكيل والقمع بحق الشعب.
بن علي وبعده مبارك والآن معمّر القذافي.. ماذا جنى العرب من حكامهم وملوكم؟، فلا ديموقراطية طبّقت، ولا حياة رغيدة منحت للشعوب، ولا عدل ولا مساواة. كل ما قدمه الحكام العرب هو الفساد ونهب خيرات البلاد والغطرسة والتعجرف والتمسك بالسلطة. وحين ثارت الشعوب بوجه هؤلاء أخرجوا quot;كلابهمquot; ليمعنوا فيهم قتلاً وتنكيلاً، تحدّوا رغبة الشعوب، ورفضوا الرحيل قبل أن يضمنوا سلامة الأموال المنهوبة، وقبل أن يعيثوا بالبلاد خرابًا. ماذا جنى العرب من الأجهزة الأمنية التابعة لأهل الحكم، جيوش وأجهزة أمنية من المفترض أن تحمي الشعوب تدير بنادقها لحماية الفسادين والمفسدين.
لكن ورغم كل هذا، ورغم كل الموت الذي يحصل في ليبيا والمشاهد المرعبة التي تبثّ على شاشات التلفزة، رغم الحزن والغضب الذي يشعر به كل مواطن عربي، فإن صورة آل القذافي لم تعد تختزل الشعب. العالم بأسره يراكم، كما لم يراكم من قبل، شعب ثائر وشجاع بكل ما للكمة من معنى.