quot;ابك يا بلدي الحبيب طفلا لم يولد بعد والذي سيرث كل هذا الخوف..quot; (الان باتون ، من رواية quot;إبك يا بلدي الحبيبquot;)

أنا لا أريد أن أخاف.. ولا أريد لإبني أن يخاف. ولا أريد للآخرين أن يخافونني، ولا أريد لوطني أن يصبح قلعة للرعب مرة أخرى. فبعد عقود من والقمع والحرب، وسنوات من القتل الطائفي والميليشياوي والتفجير اليومي، أعاد مؤتمر رئيس الوزراء الصحفي الخوف إلى قلبي..

قد يسخر البعض، ولكنه كان مرعبا، على الأخص عندما قرر بأن في العراق أعلى مستوى من الحريات الشخصية في العالم، وبأنهم في أمريكا يسحلون الفتيات من شعورهم أثناء المظاهرات، وعندما تفاخر بأنه يعرف كل الأسماء والتواريخ والنيات ويقرأ ما في القلوب، وعندما سخر من المتظاهرين وأعدادهم، وعندما منع الصحفيين والإعلاميين مجازا من التظاهر، وعندما نسي كل شيء واستحضر شيئا واحدا هو كرسي السلطة. لقد تحدث دولة الرئيس وكأنه يخاطب خرافا لا تعي ولاترى ولا تسمع..

لن أتصنع الشجاعة، ولن أخرج للتظاهر، فهكذا كان الأمر منذ أن صرخ زياد أبن ابيه بشعب العراق قائلا : quot;وإنّي أُقسم باللَّه، لآخُذَنَّ الوليَّ بالوليّ، والمقيم بالظَّاعن، والمقبلَ بالمدْبر، والمطيع بالعاصي، والصَّحيحَ منكم في نفسه بالسقيم، حتَّى يَلقَى الرَّجُل منكم أخاه فيقول: انْجُ سعدُ فقد هلك سُعَيْدٌ، أو تستقيمَ لي قناتُكمquot;.. ومنذ ذلك الوقت، بات شعبنا مقسما بين سعد و سُعَيْدٌ، نخاف جميعا من أن نؤخذ بما لا ذنب لنا فيه، نعاقب جماعيا، ونضرب جماعيا و نجوع جماعيا ونهرب جماعيا. فالخوف عاطفة سلبية تتفاعل فتمسخ الشخصية الاجتماعية وتعزلها عن المحيط، بل وتلد ردود أفعال تصل الى العنف المرضي في أقصى حالاتها، عنفا ضد أي مصدر آخر غير مصدر الخوف الأصلي، فالمواطن الطيب في وطننا هو المواطن الخائف، والمواطن الخائف لا فعل له بل رد فعل وحسب. ولذا بات شعبنا من بين الأعنف ضد عائلاتنا ونسائنا وأطفالنا وخصومنا ومنافسينا والآخرين الذين لا يشبهوننا، وبات الرعب من السلطة والجار والآخرين جميعا القريبين والبعيدين اسلوب حياة، إلى درجة لم يعد فيها حتى الصمت قاعدة ذهبية للنجاة ، quot; لأننا نتقن الصمت، حمّلونا وزر النواياquot; كما قالت يوما السيدة غادة السمان.

وإذ صدقنا مرة بأن عصر الخوف قد مضى وإن أفقا جديدا قد بدأ يلوح على الوطن ، جاء أولي الأمر ببغداد لعيدوننا إلى وعينا، وليثبتوا بأن من تنبأ بالإنفجار الديمقراطي والحقوقي في العراق كان على خطا، وبأن من ساقته الأحلام ليعتقد بأن الذئب يمكن أن يكون حملا وبأن الشمس قد تشرق من الغرب كان واهما، فللتاريخ والجغرافيا والانتروبولوجيا حقائق لا يمكن أن تغطيها ابتسامات المسؤولين الصفراء والحديث عن الحقوق والحريات واحترام تنوع المجتمع وما شابه، ففاقد الشيء لا يعطيه، و الإناء لا ينضح إلا بما فيه.

فانى لك أن تمضي في حياتك وسط سيول الميليشيات والمفخخات والناسفات واللواصق والكواتم ووالعلاسة والصكاكة وغيرها من مسميات الخوف التي دخلت مفردات اللغة بدون استئذان. وأنى لك ان تضع حجرا على حجر في وطن يرفض فيه عامل النظافة دخول شارع خوف القتل، وكيف لك أن تحب وتعشق وتكتب وتقرض الشعر وتفكر وغول الخوف يجول الشوارع ليل نهار مستعدا لالتهامك بدون استئذان تحت أي مسمى كان. كيف لك ان تتغنى بسماء وشجر ونهر بينما يقف الجنود المددجون بالسلاح عند كل منعطف وحارة، بانتظار مسلحين ومفخخين مجهولين بهويات شتى ومسميات مختلفة وهم مثلنا جميعا يقودهم الخوف. فأنى لي أن اشعر بالأمن ورجل الأمن يخافني وأخافه ، وكيف لي أن أسير في طرقات الوطن والجميع يخافني، من صاحب المطعم إلى الحلاق إلى البائع إلى شرطي المرور. فما أن يتكرس الخوف اجتماعيا حتى يبدأ في القضاء على كل تفاصيل الجمال والحب والحياة، فيقتلع الأشجار ويحرق الأخضر واليابس ويجفف النهر ويخنق ضحكات الأطفال واحلام الكبار.

يقاس انتصار الإرهاب، بكل أشكاله ومختلف مصادره، سواء إن كان إرهاب السلطة أو إرهاب الميليشيا أو إرهاب الجريمة المنظمة أو إرهاب الفساد، بمدى حالة الخوف التي يحققها. فهو لا يستطيع أن يهزم جيشا، ولكنه يستطيع أن يحمل فئات شعبية كاملة على الهرب من الوطن ومن بعضها البعض. أنه يهزم المجتمع بفك أواصره وخلق جزر منفصلة داخله لا تتواصل الا عبر الخوف ونقاط السيطرة المسلحة والكتل الخرسانية العازلة وصولا الى تفكيكه بالكامل و إلى القضاء على مفهوم الوطن وخلق أوطان متوهمة يسكنها quot;متشابهونquot; ممسوخون، يفصلهم عن الآخرين حاجز الخوف. هذا ما يحدث اليوم على أرض الواقع مقرونا بأخطاء يتسرب عبرها المشروع الارهابي وينمو مثل التوزيع العادل للظلم والفساد و القمع البوليسي الأعمى وقمع الحريات وازدياد مساحة التفرقة بين ابناء الوطن الذي يبدو بأن الجميع لا يرون جدوى في استمراره.
لم يكن من الحكمة ان توجه الدولة الفتية بنادقها الى صدور العزل من ابنائها المطالبين بابسط الحقوق الطبيعية مهما كانت الذرائع، ولم يتعظ الحاكمون الذين يتذرعون بكونهم منتخبين من دروس الأمس القريب جدا، فالدول لا تقوم بالهراوات وقنابل الصوت، والشوارع لا تعبد بالغاز المسيل للدموع، والمدارس والمستوصفات لا تبنى بالرصاص وإلا لصارت مصر مبارك دولة عظمى و تونس بن علي جنة الخلد ويمن علي صالح عملاقا اقتصاديا.
وإذ اتابع عبر الشاشات ما يحدث في وطني وأوطان الآخرين، أتمثل قول الآن باتون في روايته الشهيرة قبل ما يربو على الستين عاما:

quot; ابك يا بلدي الحبيب طفلا لم يولد بعد والذي سيرث كل هذا الخوف .. لا تدعه يعشق هذه الأرض كثيرا، ولا تدعه يضحك جذلا إذ تمر مياه الجداول بين أصابعه، ولا أن يقف صامتا متأملا الشمس وهي تحتضن السهول بوهجها، ولا أن يعشق أغنيات عصافير الوطن أوأن يذوب ولها في جباله ووديانه.. لا تدعه يعطي كل هذا القدر، إذ أن الخوف سيسلبه هذا جميعاquot;..

ربما كنت لا أزال مندسا وفق تعبير دولة رئيس الوزراء ولا أرى المنجزات المتحققة، كما لم أرها أيام الحكم السابق والذي سبقه. وكم أتمنى أن أكون مخطئا، ولن اضطر أن أقول لوطني يوما quot;إبك يا بلدي الحبيب .....quot;.