الحلقة الاولى

بعد حرب الأيام الستة وانتصار الجيش الإسرائيلي الساحق الذي أدهش العالم بفترة قصيرة استولى حزب البعث على الحكم في العراق بانقلاب عسكري كالعادة وأبعد الرئيس عبد الرحمن عارف إلى تركيا وشيئا فشيئا احكم سيطرته التامة على كل أجهزة الحكم في العراق وأصبح لعضو الحزب المنظم الكلمة العليا في دوائر الجيش والشرطة والإدارة وباقي دوائر الحكومة فلا وزن لرتب العسكرية ولا قيمة للمناصب الإدارية وجرى تصفية كل من يشم منه رائحة معارضة بوحشية في حمامات دم لا رحمة فيها والظاهر كانوا يهتدون بقول الشاعر. (والظلم من شيم النفوس فأن تجد ذاعفة فلعلة لا يظلم).
بدأ اضطهاد اليهود من قبل البعثيين بقطع التلفونات عن بيوتهم ومحلات أعمالهم ومنعوا من السفر إلى خارج العراق ومن بيع أملاكهم بالطابو وبدأت اعتقالات كانت أولا بأوامر (حجز اليهودي فلان حفظا لحياته) ثم تحولت إلى إلصاق التهم وأهمها تهمة الصهيونية والتجسس لحساب إسرائيل وعقوبتها الإعدام وتطور الأمر إلى إعدامات بالجملة والمفرد. وفي يوم 26 كانون الثاني سنة 1969، وكان من أسوء الأيام التي عاشها يهود العراق وأعمقها أثرا في نفوسهم اعدم عشرة يهود دفعة واحدة، ففي صباح ذلك اليوم الباكر كانت جثثهم معلقة على أعواد المشانق المنصوبة في ساحة التحرير والغوغاء يرقصون من حولهم ويغنون مثلما يفعل أكلوا لحوم البشر في مجاهل إفريقيا والراديو والتلفزيون يحثان أهالي بغداد للتوجه إلى ساحة التحرير للتفرج، واحمد حسن البكر رئيس الجمهورية يحضر الاحتفالات ويعلن ذلك اليوم عطلة رسمية عامة احتفالا بالنصر العظيم الذي حققه على أناس أبرياء عزل لا حول لهم ولا قوة، وبقيت جثثهم معلقة حتى ساعات الظهر، لقد كان يوما حالك السواد شديد المرارة ترك أثرا عميقا في نفوسنا بحيث اشعر الان وكان الحادث وقع بالأمس القريب، تلا هذا الحادث إعدامات أخرى علنية ثم تطور الأمر إلى قتل اليهود داخل السجون وبدون محاكمة فمنهم من سلمت جثته إلى ذويه مثل المرحوم المقاول داود زبيده الذي اعتقل لمدة ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع سلمت جثته إلى ذويه الذين لم يجرؤا حتى السؤال عن سبب وفاته، أما المرحوم نسيم يئيير الذي اغتيل في السجن وضعت جثته في ثلاجة لمدة ستة أشهر حاول أهله خلالها معرفة مصيره دون جدوى ولم يتركوا بابا الا وطرقوه وكان موظفو السجن يستلمون ما يرسله له أهله من الطعام والملابس في حين هو جثة هامدة في الثلاجة وقد طلب ذووه من العم عزرا أبو النيل مساعدتهم لمعرفة مصيره فطلب من صديقه سكرتير وزارة الدفاع التحري عما إذا كان حيا وعندما سأل المسولين عن السجن أجابوه بأنه حي يرزق فكذبوا حتى على سكرتير وزارة الدفاع وهو ضابط برتبة كبيرة، كانت هذه أساليب حكام البعث في معاملة ضحاياهم وبعد مضى ستة أشهر من اغتياله داخل السجن سلمت جثته إلى ذويه وكذا كان الحال بالنسبة للمرحوم فؤاد شاشا الذي قتل ولم يعرف أهله وكان جثته، أما المرحوم التاجر شوع سوفير فقد اغتيل داخل السجن وظلت زوجته السيدة مارسيل تفتش عنه في جميع المواقف والسجون دون جدوى وكانت لا تصدق أو لا تريد أن تصدق بموته رغم كثرة الإشاعات عن اغتياله وأخيرا قيل لها أن زوجها هرب من السجن، كما واغتيل الكثيرون من اليهود داخل من اليهود داخل السجون وبدون محاكمة ولم يعرف ذووهم أين دفنوا أمثال الخياط المرحوم عزرا قحطان وأخيه والمحامي يعقوب عبد العزيز وشاؤل شماش وشاؤل رجوان وكثيرون غيرهم وقد شهدت حجرات قصر النهاية وهو الموقف الكبير الخاص بحزب البعث فقط شهدت أقسى أنواع التعذيب وأشدها فظاعة ورددت جدرانها صدئ أهات المعذبين وصيحاتهم ومن دخل هذا الموقف وحالفه الحظ وخرج منه حيا خرج عليلا على الأرجح وهذا الأمر ينطبق على باقي المواطنين من غير اليهود أيضا.
ازدادت الحالة سؤا وعشنا آنذاك في جحيم من الرعب لا يطاق ويكفي أن يدق جرس الدار في دار أجحد اليهود ليلا ليدخل الخوف والفزع إلى قلوب ساكنيه وكثرت الإشاعات عن تجميد أموال اليهود الباقيين وحجزهم في مخيمات خاصة وفي كل صباح عندما يلتقي يهوديان يسأل احدهما الأخر عن اليهود الذين اعتقلوا في الليلة السابقة وأقراص الغاليوم المهدئة لا يخلو منها أي دار فيما كانت شرطة الأمن تلاحق اليهود في دورهم وأماكن عملهم دون هوادة وتحصى خطواتهم وانقطعت أبواب الرزق عن البعض إما بسبب إخراجهم من وظائفهم اون لفقدانهم مصادر عيشهم من أعمال حرة مما حدا ببعض أساتذة مدرسة فرنك عيني إلى القيام مشكورين بجمع التبرعات وتوزيعها على العوائل المحتاج سرا لسد الرمق. كنا آنذاك أقلية صغيرة تحت رحمة حكومة ظالمة لا حول لنا ولا قوة لا جبنا فان تأريخ اليهود الطويل عبر ألاف السنين يشهد بشجاعتهم. وخاصة في الحروب والانتفاضات الوطنية ضد المستعمرين ولم يكن لنا والحالة هذه ما نفعله سوى الصوم وإقامة الصلوات الخاصة في الكنس نتضرع من خلالها إلى الله تعالى أن يزيل عنا هذا الكابوس المرعب وكانت الدموع تذرف من عيون النساء والرجال غزيرة هذا ما كنا قادرين على القيام به الأمر الذي كان يمنحنا بعض الواحة النفسية والأمل وقد دفع هذا الوضع بالكثيرين من اليهود إلى الهروب عن طريق إيران إلى إسرائيل بالرغم من المخاطر التي قد يتعرضون لها، لقد دامت هذه الحالة إلى أن شنت وسائل الإعلام العالمية حملاتها على حكومة العراق مستنكرة سفك الدماء البريئة كنا وان الدول الصديقة لإسرائيل بذلت مساعها الحميدة لدى حكومة العراق مما اضطرها للتخفيف من حدة الضغط فهدأت العاصفة ومرت فترة من الزمن لم يجر خلالها اعتقالات ولا إعدامات ولا اغتيالات داخل السجون ولا حتى مضايقات بسيطة وسمح لبعض اليهود بمغادرة العراق وقد وجهت الدعوة إلى الأديب والشاعر الكبير الأستاذ أنور شاؤل المحامي مرتين للظهور في ندوات أدبية في التلفزيون العراقي كما وقد أرسل له الرئيس احمد حسن البكر باقة من الزهور عند دخوله إلى المستشفى للعلاج فرأينا بهذه اللفتة بادرة طيبة لحسن النية واستبشرنا خيرا وحسبنا أن عهد الظلم ولى وانقضى غير أن ذلك الهدوء كان كالهدوء الذي يسبق لعاصفة وعلى حين غرة وبدون أي سبق مبرر بدأت الحملة الجديدة ضد اليهود بمذبحة عائلة قشقوش التي تناولتها بعض وسائل الإعلام العالمية (عادت حليمة إلى عادتها القديمة) فقد ذبحوا جميع أفراد العائلة في عقر دارهم. الأب، الأم، ولدين كبيرين، بنت واحدة، ونجت البنت الثانية لكونها كانت غائبة على الدار أثناء تنفيذ المجزرة، وهي الان من سكان الولايات المتحدة الأميركية، ذبحوا الجميع ثم قطعوا جثثهم إلى قع وضعوها في حقائب حملاتها سيارة شحن أمام أعين الناس وفي وضح النهار كما وان عائلة قشقوش الثانية المكونة من رجل وزوجته اغتالوهما بعد أن اغتصبوا الزوجة أمام أعين زوجها وهنا يجدر بنا السؤال في أي عصر نعيش؟ هل قي عصر العلم والنور؟ أو في العصر الالكتروني؟ أو عصر هبوط الإنسان على القمر؟ ولأي درك وصلت إليها أخلاق بعض البشر؟ نعم قد تحصل مثل هذه الجرائم من قبل شخص معتوه فلا غرابة بذلك، أما وقد حصلت من قبل المسؤلين عن الأمن وبعلم من الحكومة القائمة فهنا الطامة الكبرى، ولماذا ارتكبت هذه الجرائم وما ذنب ضحاياها الأبرياء؟ .. تلا هذين المجزرتين اعتقالات واغتيالات أخرى داخل السجون دون معرفة مصير جثثهم فكانوا يساقون إلى السجون يدخلونها ولا يخرجون، ترى هل ارتوت نفوس قادة البعث وشرب الداء من اليهود وغير اليهود أو لمرتو بعد؟ وقبل أن اختم هذا الفصل أود أن انوه بأننا لم نلق أية مضايقات أو تحرشات من قبل أفراد الشعب العراقي وكل ما حدث لنا من الماسي والمصائب وجرائم القبل وسلب الأموال كان بتدبير وإيحاء من حكام حزب البعث وعلى الموظفين التنفيذ فقط والويل لمن يخالف لهم أمرا.

يتبع ndash; ذكريات أهرون موريه - رقم 3