الحلقة الاولى |
كنا قد عرضنا في الجزء الأول من كتاب quot;في علم اجتماع الثورةquot; لعالم الاجتماع العراقي الرائد د. حاتم الكعبي، والكتاب يعد سبقا في مجاله للمكتبة العربية، خاصة وانه قد صدر عام 1959 في بغداد. وفي تلك المرحلة كانت المنطقة العربية قد شهدت عدت ثورات أو انقلابات عسكرية صنفت على أنها ثورات، منها في مصر عام 1952، والعراق عام 1958، وإعلان استقلال كل من بلدان ليبيا والمغرب وتونس وغيرها. ألان والمنطقة العربية تشهد حراكا سياسيا واجتماعيا يكاد يكون مشابها بحجم تأثيره في الواقع، فإننا نتواصل بعرض الجزء الثاني من الكتاب مع تعقيبات وتحليلات مرتبطة بالتطورات الأخيرة في العالم العربي.
في هذا الجزء نعرض لأسباب الثورة من وجهة نظر علماء الاجتماع.
في أسباب الثورة:
يمكن عد جملة من الأسباب تتراوح بين العوامل الداخلية والخارجية، وفقا لنظريات علم الاجتماع. فهناك العوامل النفسية للأفراد ومنها في الوضعيات المحيطة التي يعاني منها الناس. ومنها ما يمزج بين هاتين الجهتين في أحداث الثورة والتمهيد لها. ومنها ما يرجع إلى البيئة الاجتماعية. وفي العرض التالي عدد منها:
أسباب غريزية:
في رأي هربرت ميلر، أن سبب الثورة يرجع إلى ما يسميه بـ(الجنون الحصاري obsessive psychosis) الذي تعانيه الفئة المهضومة عادة في المجتمع، والتي يدفعها هذا الجنون إلى العمل على تغيير نصيبها في الحياة فتثور. بينما يرى سروكن وجريا مع المذهب الغريزي الذي كان طاغيا في الفترة التي وضع فيها نظريته، هذه، أن كف وكبت الغرائز الرئيسية هو الذي يؤدي إلى الثورة.
أسباب اقتصادية:
بينما يرى أصحاب العمل الاقتصادي ومنهم الماركسيون، أن سبب الثورة هو العامل الاقتصادي. ويتراوح تحديد العامل الاقتصادي بين البطالة والصراع الطبقي القائم على التفاوت الاقتصادي. أو التضارب بين قوى الإنتاج وبين علاقات الملكية القائمة، ذلك أن قوى الإنتاج في المجتمع هي في تغيير مستمر، ونمو دائم، ولابد لها في مرحلة من مراحل هذا التغيير أن تتضارب مع علاقات الملكية مما يكون سببا في الثورة. ويؤكد مريمان (Merriman)، نفس الاتجاه (الاقتصادي) من دراسته لست ثورات حدثت خلال القرن السابع عشر في ستة أقطار أوربية. إن كل تلك الثورات ترجع إلى جذور وأسباب مالية كالاحتجاج ضد الضرائب.
قيم وأفكار وعقائد جديدة:
يعتقد أصحاب هذا الاتجاه أن الأسباب تعود إلى دخول قيم وأفكار وعقائد، أو خرافات ثورية جديدة، أو تمثلا ت جمعية جديدة (collective representations)، على حد تعبير دوركايم وبارك. أو في ظهور يوتوبيا أو آيديولوجي، ثوري جديد بحسب لينين وميوزل وغيرهما.
وقد نقل عن لينين القول الشهير الذي مضمونه quot;من دون نظرية ثورية، لا يمكن أن تحدث حركة ثوريةquot;. وفي نفس المعنى يذهب ميوزل إلى أن كل ثورة يجب أن يسبقها آيديولوجي ثوري ليكون سببا ممهدا لحدوثها. ويرى غوستاف لوبون أن جذور الثورة وأسبابها تمتد إلى نشأة معتقد جديد يهدد المعتقد القديم. ومن هنا تكون الثورة إيذانا بنهاية معتقد قديم ونشأة معتقد جديد مكانه. في حين يرى روبرت بارك أن الثورات أعمال جمعية، موجهة نحو ضرب من ضروب التمثلات الجمعية. أما سوريل الذي اشتهر ببحوثه عن الحركات الدموية، فإنه يؤكد على أن بداية الثورة هي في وجود quot;الخرافات الثوريةquot; على حد تعبيره. إن الذين يسهمون في حركة اجتماعية هامة هم اللذين يكونون هذه الخرافات الثورية، حيث يصورون لأنفسهم دائما بأن عملهم الذي سيقدمون عليه، ما هو إلا معمعة سيكتب فيها النصر لهم ولعقيدتهم. إن هذه الخرافات هي التي تكون مصدر التحفيز الملح على القيام بالعمل الثوري.
اليوتوبيا:
يذهب فريق من الباحثين إلى أن جذور الثورة وأسبابها تمتد عادة إلى طوبائية أحد الطوبائيين. ومن هنا يرى هذا الفريق أن الثورة الفرنسية تمتد بجذورها إلى ما كتبه روسو مما دعا بانجيل إلى الثورة. وأن الحركة التي قادها كرومويل في انكلترا تمتد جذورها إلى ما كتبه توماس مور، في طوبائيته الشهيرة quot;يوتوبياquot;. وان الثورة الحمراء في روسيا تمتد جذورها إلى الطوبائية التي صورها كارل ماركس وهكذا.
إن نظرية اليوتوبيا في الثورة تؤكد ضمنا، كما هو واضح على دور المفكرين في الحركات الثورية، كما أنها تدعم موقف فريق آخر من الباحثين في سببية الثورة الذين يركزون على أهمية quot;الرجل العظيمquot; ودوره الأساسي في حفز الثورة بصورة خاصة وفي إحداث التغير الاجتماعي بصورة عامة.
الرجل العظيم:
إن هذا الرأي في الزعامة أو القيادة تتمسك به ثلة من علماء الاجتماع، تسمي نظرياتها بنظريات quot;الرجل العظيم The great man theories of leadership). ومن رواد هذا الاتجاه، توماس كارلايل في كتابه quot;عبادة الأبطالquot;. والأستاذ برايزغ أحد مشاهير أساتذة جامعة برلين، والفرنسي تارد، في طرحه حول أهمية الاختراع والمخترعين في إحداث التغير الاجتماعي، وماكس فيبر في أطروحته الشهيرة (الكارزما the charisma)، وصاموئيل كشلو في بحثه حول quot;النبي كزعيمquot;. كذلك لا يمكن تجاوز آراء فلاسفة وعلماء اجتماع آخرين أمثال هيغل وسبنسر وهوك ووليم اوغبرن.
الشاذون في المجتمع:
هناك فريق آخر من الكتاب يرى أن الذين يبدأون الحركة الاجتماعية، أو يحفزون على الثورة وتحطيم النظام الاجتماعي القائم، لابد وأن يكونوا من الشواذ (لا من الناحية الايجابية كالعبقرية والعظمة وقوة الشخصية وما إليها، بل الشواذ في النواحي السلبية) في المجتمع، كإن يكونوا من المصابين بالأمراض العصبية، أو من المجانين من قبيل الخارجين على الحدود المرعبة في الضبط الاجتماعي، أو الذين يعانون انحرافا جنسيا وما شاكل. من هذا الفريق من الكتاب، لوبون وايفرت مارتن في كتابه (سلوك الجماهير) وهارولد لازويل وغيرهم. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن أغلب الآراء من هذا الاتجاه لا تخلو من تحيز تتصف به آراء المحافظين وأصحاب النفوذ ضد أي تغيير.
الاحتكاك الحضاري:
يرجع أصحاب هذا الاتجاه سبب الثورة إلى الاحتكاك الحضاري بين شعب ما وشعوب أخرى أرقى منه، أو تختلف عنه حضاريا.
هنا يمكن إدراج الثورات والحركات الإصلاحية المعاصرة، خاصة تلك التي حدثت في بلدان عربية ولازالت تحدث في أخرى، ذلك لا بد أن يكون نتيجة الاحتكاك الحضاري (غير المباشر) خاصة، الذي يتم عبر وسائل الإعلام من خلال الفضائيات وعبر شبكة الانترنت التي تمثلتها الأجيال الشابة خاصة. كما أن تسليط الأضواء من قبل الإعلام ونقل الحدث إلى العالم بالصورة والصوت قد حد إلى درجة كبيرة من استخدام العنف المفرط ضد الثوار في معظم تلك البلدان، وعدم التمادي فيه كما كان يحصل في فترات سابقة من تاريخ البشرية.
خسارة حرب ما:
لقد ذهب فريق من الباحثين إلى أن هناك رابطة بين الحرب والثورة، حيث تؤدي الحروب الخاسرة إلى ثورة في المجتمع. ومن أمثلة ذلك ما حدث من ثورات في 1917-1918 في كل من النمسا وتركيا والمجر وألمانيا وروسيا وبلغاريا واليونان وغيرها. وحدوث الثورة في روسيا سنة 1905 وفي تركيا سنة 1912 وفي فرنسا سنة 1870-1871 وغيرها.
التغيرات السكانية (الديموغرافية):
ساهم المختصون في موضوع السكان بتبيان أثر التغيرات التي تطرأ على السكان في إحداث الثورة. ومن هؤلاء الباحثين كارلي Carli الذي اشتهر بدراسة الترابط بين التغيرات السكانية وحدوث الثورات. لقد كان من نتائج هذه الدراسات أن بعض هؤلاء الباحثين قد أكدوا على أن الفترات التي تتميز بتناقص أو تزايد سريع في السكان، تكون فترات ثورات وأزمات. وباختصار فإن التزايد السريع أو التناقص السريع في السكان ينطوي على تفاضل واختلاف في تزايد أو تناقض الطبقات الاجتماعية المختلفة في نفس المجتمع. وكلما كان هذا التفاضل كبيرا، كلما كانت الحوائل والموانع التي تحول دون تسرب الموهوبين وتسللهم من الطبقات الاجتماعية الدنيا إلى الطبقات العليا منيعة متشددة، كذلك يكون احتمال حدوث الثورة والأزمات كبيرا. إن هذا التفسير يلتقي مع ما يذهب إليه كل من باريتو وسروكن وسمنر واضرباهم بخصوص أثر عرقلة النقلة الاجتماعية في الهرم الاجتماعي في إحداث الثورات.
الاجتماعية:
تبذل الفئات الحاكمة المستأثرة بمراكز الحكم عنوة بالطرق غير الديموقراطية مساعي جبارة إذا هي ابتغت احتكار الحكم حفظا لمصالحها وصيانة لاستمرارية تلك المصالح، لتثبيت المجتمع وتحجير كيانه الاجتماعي وعرقلة تغيره الاجتماعي. إن عملية التثبيت هذه تقتضي إيداع تلك المؤسسات إلى أفراد الفئة الحاكمة نفسها أو أذنابها وهكذا يتم إفساد الديموقراطية في الحكم بتفشي المحسوبية والمنسوبية. كل ذلك يدفع إلى التوتر النفسي الدائم ويفوت على الأفراد الفرص الكثيرة التي تمكنهم من استغلال مواهبهم. وينجم عن هذا تثبيت وتمييز طبقي ينسحب على أسس اجتماعية بعد أن يحصل التباين على أسس السكن والتعليم والمنزلات الاجتماعية، ورؤى طبقية موحدة لكل طبقة وربما حتى لهجة متمايزة عن العامة. ولهذا يظهر التعصب في هكذا مجتمعات يسعى إلى المحافظة على البعد الاجتماعي بين الطبقات الاجتماعية والفئات المختلفة. بالنتيجة يصبح الكيان الاجتماعي جامدا.
لقد ذهب ميوزل إلى التعميم الذي من أن الثورات هي دائما ثورات الطبقات الدنيا على الطبقات العليا.
كما إن هناك فريقا من المفكرين يضع أهمية على الحاجات الأساسية، منها والجديدة في إحداث الثورات تحت ظروف معينة. من هؤلاء مالينوفسكي الذي يرى أنه لا يمكن أن يحدث اختراع ولا ثورة ولا تغير اجتماعي أو فكري إلا عندما تستحدث حاجات جديدة. كذلك يرى ديفز أن كل حركة اجتماعية ما هي إلا نتيجة سوء تكيف في المجتمع أو في جماعة منه جراء وجود حاجة أساسية غير مشبعة عند الناس. وعلى هذا الأساس فإن الثورة تقوم من أجل تحقيق وإقرار التوازن.
بالإجمال يمكن القول أن السببين الاقتصادي والسياسي المتعلق بتطلع الشعوب إلى حرية التعبير والتعددية السياسية، ورغبة باختيار حكوماتها سواء المحلية أو على مستوى الدولة، بات السببان الرئيسيان في هذه المرحلة من حياة البشرية، وذلك في ظل انتفاء دواع الأسباب الأخرى مثل الاستعمار والتأثر بالأفكار الايديولوجية أو الدينية القادمة من الخارج. على أننا لا ننكر مطلقا أن هناك احتمالات أن تقوم ثورات داخلية لدواع قومية أو مذهبية في أوساط الأقليات التي تعيش في مجتمعات أوسع مغايرة لها ومهيمنة عليها، لا تمنح لها حرية التعبير أو الممارسة العقيدية أو الحقوق الثقافية، وهذه يمكن أن توصف بأنها فئوية، أي لا تشمل شعب دولة ما بأكمله إنما طائفة منه.
* مختص بعلم الاجتماع- [email protected]
التعليقات