اللغة، كلّ لغة، هي الوعاء
الذي يحفظ فهم الناس للكون من حولهم. إنّها تجريد صوتي مُجمَع على مدلولاته بين البشر. فدونما إجماع كهذا لا وجود للّغة ولا وجود لذلك الخيط الّذي ينتظم فيه المجموع ككيان لغويّ حضاريّ. ولهذا فإنّ في اختلاف الإجماع اللّغوي على مدلولات الأصوات اختلافًا وتباينًا بين الإرث الحضاري للمجموعات البشريّة.
من هذا المنطلق، فإنّ فهم الأسس التي تنبني عليها المصطلحات في اللّغة يزوّدنا بمفاتيح لإدراك تطوّر المفاهيم البشريّة التي جُرّدت وسُكبت في هذه الأوعية اللغوية.
فعلى سبيل المثال،
إنّ مفهوم المصطلح rdquo;شعبldquo; يختلف بين مجموعة بشريّة لغويّة، وبين مجموعات أخرى أجمعت على مدلولات أخرى للأصوات. وفقط لمجرّد إلقاء نظرة عابرة يمكن العودة مثلاً إلى مادّة rdquo;شعبldquo; (people) في قاموس أوكسفورد الإيتيمولوجي بغية الوقوف على مدلولات المصطلح وتطوّر مفهومه عبر القرون. كذا يمكن أيضًا العودة إلى مادّة rdquo;شعبldquo; في المعاجم العربيّة للتعرّف على مدلولاته في الذهنيّة العربيّة. وكذا يمكن النّظر في مصطلحات مثل rdquo;أمّةldquo; أو rdquo;وطنldquo;.
ما هو معنى الـldquo;دولةldquo;؟
يمكننا الوقوف على الفرق الشاسع بين أصل وتطوّر الحقول الدلالية للمصطلح ldquo;stateldquo; في اللغات اللاتينية وبين تلك التي للمصطلح rdquo;دولةldquo; في اللغة العربية. فالمصطلح ldquo;دولةldquo; في العربيّة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بذهنيّة الصّراع القبلي على السّلطة. فها هو الجوهري في الصحاح يسرد لنا معنى المصطلح: rdquo;الدَوْلَةُ في الحرب: أن تُدالَ إحدى الفئتين على الأخرى. يقال: كانت لنا عليهم الدَوْلَةُ... وأَدالَنا الله من عدوّنا من الدَوْلَةِ....ldquo;. وفي لسان العرب أيضًا نجد: rdquo;إِنما الدَّولة للجيشين يهزِم هذا هذا ثم يُهْزَم الهازم، فتقول: قد رَجَعَت الدَّوْلة على هؤلاء...ldquo;.
نلاحظ؛ إذن، الفرق في مفهوم الدولة كما هو متجذّر في الذهنيّة العربيّة، مقارنة بلغات ومفاهيم الشعوب الأخرى.
على العموم، وفي سياقنا نحن فإنّ الأمثال العربية تختزل تجارب هذه الأمّة المسمّاة rdquo;عربيّةldquo; على مرّ قرون من الزّمن. ولهذا يمكننا القول إنّه ومثلما علّمتنا الأمثال العربيّة فـldquo;من شبّ على شيء شاب عليهldquo;. أوليست هذه هي حال الأصقاع العربيّة التي يُطلق عليها مصطلح rdquo;دولldquo;؟ إنّ الشّعوب العربيّة ومنذ القدم، أي منذ ظهورها على مسرح التاريخ لم تتبدّل لديها هذه المفاهيم.
ولو نظرنا إلى ما هو حاصل
في هذه الأصقاع العربيّة في الشّهور الأخيرة فإنّنا نجد أنفسنا أمام ذات الذهنيّة التي لم يطرأ عليها تغيير. فها هو النّظام السّوري الإجرامي الاستبدادي يثبت كلّ يوم من جديد أنّ سورية ليست كيانًا سياسيًّا يمكن أن يُطلق عليه مصطلح rdquo;stateldquo;، وإنّما هو rdquo;دولةldquo; بالمعنى العربيّ للمصطلح، أي مزرعة قبليّة تُحمى بالحديد النّار، ولا معنى للدولة ولا للشعب بأيّ حال من الأحوال. وفي الحقيقة كذا هي الحال في سائر أقطار العربان، من مشرق العرب إلى مغاربهم. فلا دولة بمعنى الدولة ولا شعب بمعنى الشعب وإنّما هي شراذم قبائل متصارعة لم تخرج بعد من الطبّع البَرِّي، ولم ينتقل أفرادها أو لم يتطوّروا إلى الطبع البِرِّي.
هذه هي التربة الصحراوية التي نبت العرب وزعماؤهم - أكباشهم بلغة العرب القديمة - فيها، يعيشون في ربوعها وينقلونها معهم أنّى حلوا وأنّى ارتحلوا.
ولمّا كانت هذه هي الحال، وهي كذلك بلا أدنى شكّ، فإنّ الاستعمار أفضل للبشر من كلّ هذه الذّهنيّات العربيّة المتصحّرة.
والعقل ولي التوفيق!
*
موقع الكاتب: rdquo;من جهة أخرىldquo;
http://salmaghari.blogspot.com
***
التعليقات