quot; أربع عيال و وأمهم.. وهو مدرس في الأرياف.. وآخر أمله 320 جنية في الشهر.. كان بيموت كل يوم من وجع الفقر والذل وقلة الحيلة quot;... هكذا اختزل مأساة زوج أخته، الذي رقص باكياً.. وسجد شاکراً في ذهول من طال عنان السماء أو اخترق الحجب ليملك الملك.. بعد زيادة راتبه الضعف في سابقة اقتصادية جعلت الرجل يلعن أيام مبارك.. ويلعن كل لاعن للثورة وحكومتها.. المؤقتة.
زحام القاهرة.. أجواء الصيف النهارية القاسية، تأخري عن موعد ضروري، كلها عوامل ساعدت سائق سيارة الأجرة أن يستطرد في حديثه الذي غالباً ما كان من طرف واحد، اللهم إلا إيمائة مني، تؤكد ولا تجرؤ على الاعتراض!!..
لم يترك لي فرصة الانشغال بالتحليل المنطقي لكل الصراعات السياسية والأيدولوجية التي تسكن الساحة المصرية الآن، تصريحات السياسيين، استفزازات مدعي الثقافة، سرقات أصحاب الأموال، الفتنة الطائفية، عفريت الحرب الأهلية، أحزاب بلا قاعدة، وقواعد تدق أعلامها في الطرقات. كل ما شغل عقلي لم يمثل بالنسبة له سوى حبر على ورق الصحف، فالأهم ذلك المدرس الريفي رقيق الحال، المطحون هو وأسرته أسفل أحذية quot; الكبارquot;، أو quot;اللي كانوا كبارquot; على حد تعبيره، ولقمته المغموسة بالذل.. تحولت وبقدرة الثورة إلى أمل وكرامة، فالأن.. والأن فقط قد اعترف مواطن مصري ــ لا يشغله ما يشغلنا من قضايا المصير ــ بالثورة المصرية، غير عابئ بما سيصاحب تلك الزيادة البسيطة من تغول استهلاكي لن يرضى إلا بإعادة سحقه ثانية، ولكن هذه المرة لن نعرف من هم الكبار.
جاء هذا الرجل ليثبت لي أن ما طرحته في مقالي السابق على إيلاف (صفقات على دماء الثورة المصرية)، لم يكن محض افتراء، فأرض الواقع لا تمت بصلة لنخبنا السياسية والدينية والعسكرية، بل تنغرس في عمق أكثر وضوحاً وتجذيراً. حضر تسبقه دموعه ليُحملّني أمانة لعنهم جميعاً، كل تلك الديوك الساعية لمصالح الداخل والخارج، بعيداً عن صالح وطن يضيع هباءً بجهل وأطماع، ومعارك وهمية على صفحات العالم الافتراضي، و شاشات القنوات الإعلانية. حمّلني جوع أبناءه ووجع مستقبلهم، لأعلقه على رقاب هؤلاء المتفعين، تميمة تجلب لهم النحس والضياع بين دفتي التاريخ.
quot; مصر خيوط عنكبوت quot;... مصر في ثقافتنا الشعبية تعني و بشكل مباشر القاهرة،.. مازال الزحام ممتداً إلى المالانهاية.. والسائق يتذكر جدته الريفية التي لم تزر القاهرة سوى مرة واحدة على أعتاب أولياء الله الصالحين، وعادت بانطباع وحيد، أن القاهرة طرقات لا تنتهي، وسراب أمل في نهاية لن تأتي إلا بالموت،.. أناسها كالقرود يتعلقون بخيوط واهية كشباك العنكبوت، وعلى الرغم من ضعفها فلن يخرجوا منها إلا إلى القبور... حتى أن الموت في quot; مصر quot; يأتي فجأة.. بلا أي انذار، فكم شاب وطفل يباغته الموت في مصركم العجيبة،.. ولكنه quot; يستأذن في بلدنا quot;.. على حد تعبيرها.. يطرق الأبواب قبل الأوان.. فالموت في بلاد العجوز.. لا يتجرأ إلا على الشيوخ والعجائز. الطرقات هناك مضيئة حتى في quot;عز الظلمةquot;، فأهلها يحفظونها ككف اليد، quot; مصر يا ابني أمل كذاب quot;..!!
تلك الرؤية العميقة هي التي تسيطر على الذهنية الشعبية حينما يتعلق الأمر بالقاهرة، بمستقبل وتاريخ المدنية المصرية، مجرد عابرين لا يشغلهم إلا الاستقرار، والموت عند اشتعال الرأس شيباً. والتغير إذا لم يؤسَس على أساطيرهم، فلا وجود له. وثورتنا المجيدة لم تحدد أي تصور واضح لهؤلاء البسطاء الذين لا يستخدمون الفيس بوك، ولا يشاهدون المواد الإعلانية المكثفة لشباب الثورة أو منظريها، ورغم كونهم يشكلون مادة خصبة للصحف فأغلبهم لا يقرؤونها من الأساس. فالتغير الذي لمسناه على الشاشات الفضية، لم يصل إليهم بعد، وأعتقد أنهم لن يشعروا به مطلقاً. فالبحث عن الأمان والخوف من المجهول كلها عناصر لن تربطهم مطلقاً بخيوط العنكبوت.
بالكاد وصلت إلى هدفي بعد رحلة زحام،.. وفي أحد المطاعم الشعبية التي تزخر بها قاهرتنا المحروسة، شاركني أحدهم طاولتي، وكعادتنا المصرية، قرر أن يعلق بحرية مطلقة وبدون أن يشعر بالديكتاتورية الثورية التي قد نمارسها على مستوى النخب الثقافية والسياسية، على رسالة وصلت إلى هاتفي المحمول من القوات المسلحة التي اعتادت أن تشاركنا همومنا الصباحية والمسائية يومياً منذ وصولها إلى سدة الإشراف على انتفاضتنا المجيدة. كان نص الرسالة : quot; القوات المسلحة تناشد رجال مصر المخلصين لمواجهة الخونة والمجرمين quot;، في تعميم غير مفهوم الدلالة أو الهدف!!. ولدى إعادة قراءتها على بعض الأصدقاء، تبين لي أني الوحيد من وصلت له نص هذه الرسالة، مما أشعرني أني سأتحمل منفرداً هذه المهمة الجليلة!!. اعترض الرجل في لهجة استنكارية قائلا: quot; من هم الخونة والمجرمين!! quot;، وقبل أن أجيب على سؤاله الذي لا يحمل لدي أية إجابة مقنعة، استطرد في جدية شديدة وشقاء السنوات منحوت على ملامحه : quot; إن كان مبارك فتح خزائنه، ووزع بعضاً مما يملك على هذا الشعب، لظل في مكانة ولم يرحل إلى مماته، بل كان من المحتمل أن يتحول ميدان التحرير إلى ثورة تأييد له ولابنه من بعده... يا أستاذ quot; دي ثورة جياع، والراجل ده لازم يتحاكم بتهمة الغباء والاستهتار quot; quot;. وبعيداً على وصفه للثورة المجيدة والذي رأيت أنه من واجبي نقله دون أي تجميل أو تزيين، فقد قفز إلى ذهني مشهد ذلك المدرس الريفي البسيط الذي بكى بعد زيادة راتبه.
من المستحيل أن ترصد وجهة نظر مجتمع بأكمله في حراك اجتماعي أو سياسي كاسح كالذي نمر به الأن، ولكن من المؤكد أن quot; الهم واحد والملل مشترك quot;، وبالتالي فهم الفرد ينسحب على المجموع، والعكس. وبعيداً عن الصفقات والمؤامرات وجلسات الحوار الفاسدة، والأحزاب المُقنّعة، وصراعات المصالح، وجدلية الدستور أولاً أم الانتخابات، فالشارع المصري هو الحكم الأول والأخير على المهزلة السياسية التي نمر بها، فوهم النخبة أنها الأقدر والأصلح وأن العلم يأتيها باطنياً، من عمق ثقافة مشوهة منذ عقود، يجعلها بعيدة عن هم المواطن المصري وطبيعته الحقيقية، وأساطير الاستقرار وإن كان تحت سماء الظلم. يا سادة فلنخرج من شرنقة العنكبوت إلى واقع لا يدرك وجودنا، وأرض مصرية عانت وما زالت من انفصال النخب ووصاية الحكام وصراع المصالح ووجع الفقر.
أكاديمي مصري
[email protected]