ستنتهي مأساة إمبابة إعلامياً وسياسياً بتلك الطريقة الأشهر على الساحة المصرية، جماعة أصحاب اللحى من قساوسة وشيوخ والجديد رموز التيار السلفي الذين يظهرون كلعنة في خلفية كل مشهد دموي، يتهافت الجميع على تقبيل لحية الأخر في أخوة إعلامية جليلة، ليقسموا بكل غالٍ ونفيس أننا في بلد الأمن والأمان، وأن المسيحية تدعو للسلام، والإسلام يتبنى حقوق الأقليات، ولا فرق بين مسلم ومسيحي في مصرنا الحبيبة..وغيرها من الدعاية المجانية التي لا تغني من موت يحاصر كل بيت.فلن تفلح دعوات السلام المدعاة بطبيعة الحال في تسكين مرض عضال كامن في بنية المجتمع، وآن الوقت لظهوره.
فالفتنة التي لم تكن نائمة مطلقاً، لا يمكن محاصرتها بقبلات اللحى، أو دعايات الثورة المضادة ومؤامرة فلول النظام السابق، وكأننا كنا في عالم آخر لا نفقه ولا نعي، أو كأن بلادنا كانت ترعى فيها الذئاب مع الحملان طوال عقود..فلن نفلح هذه المرة في إسقاط شرورنا على شر أخر ألبسناه عباءة فسادنا وحولناه إلى صنم نرجمه كل مصيبة نصنعها بأيدينا، فالأمر تجاوز مسكنات الثورة والدين إلى مأساة مجتمع بكاملة، بداية من أحداث كنسية أطفيح..وصولاً لإمبابة ..مروراً بقنا، خط كامل من النيران المشتعلة لا يعلم مداها أو من ستحرق غداً إلا الله.
المأساة ليست كاميليا التي بانت في قناة الحياة الطائفية، وأعلنت أنها مسيحية المولد والممات، أو أسرى الكنسية من المتأسلمات كما يزعم التيار السلفي بشتى أطيافه بعد أن خرج علينا من قمقم أمن الدولة كمارد لا يعي إلا أوامر سيده..الإشكالية الحقيقة تكمن في اختزال الدين والوطن معاً في شخص متأسلمة أو أسيرة، في تبجح تيار على هيبة الدولة وسلام المجتمع وتعنت كنيسة تدعم إحساس المظلومية وتدافع عن سيادتها على شعبها واستقلالها عن الدولة التي طالما سعيت لنيل رضاها لعقود سابقة.الإشكالية في بنية مجتمع لا يسمح بالتعددية، ولا يقبل إلا بنظرية الصوت الواحد يعزف له على آلة خرساء لن تسمعه أنين الأخريين.
والأهم والأوجع..تخاذل حكومة اختارها ميدان التحرير لتدير شؤون البلاد، لا لأن تترك بقاياها يشتعل كأكوام القمامة.فالحكومة الحالية للأسف ساهمت في إسقاط هيبة القانون والدولة على أعتاب توازنات القوى التي أتت بها لسدة السلطة.. المؤقتة بالمناسبة، فتجاوزت عن كل تجاوزات التيار السلفي بأساليب تتسم بالميوعة وعدم الحسم، ولم تستطع أن تفصل بين الجرم القانوني والأزمات الدينية، فخلطت الأوراق، لدرجة أوصلتنا على مشارف حرب أهلية مدوية.
وفي نفس السياق يؤكد المجلس العسكري أنه يدير ولا يحكم، وبالتالي قدم العديد من التنازلات حتى لا يفقد حياده المفترض، وتنازل عن صلاحيات القوة التي مُنحت له واكتسبها بالتقادم، فترك البلاد تهبط في الوحل دون أن يُقّدِم على الخيار الوحيد المنطقي في سياق الفوضى، وهو الحسم العسكري لكل من يحاول أن يعبث بمقدرات وطن أنتظر طويلاً لحظة حرية قد يكون جديراً بها.أم أن المجلس ينتظر دعوى شعبية عامة ليتخذ قراره الأخير؟؟!!
فقضايانا الطائفية لن تُحل بجلسات عرفية يشرف عليها شيوخ السلفية أو رموز الأخوان، وممثل من المجلس العسكري، وبعض من القساوسة، في ممارسة لنفس آليات التفكير العتيقة، التي تساهم في تفاهم الأزمة، أو بعض الدعوات من الجانبين، وبيانات يبدو عليها لغة الحسم تخرج عن لسان الوزراء أو من يمثل الحكومة المؤقتة، حسم لا يتعدى اللغة.الحل الوحيد دولة قانون على أرض الواقع، تفرض القانون كثقافة حتى وإن كانت بالقوة، لتحمي بقايا وطن يمزقه أبناءه.
إمبابة ذات التاريخ العريق في الاحتفاء بالجماعات الموت الدينية، من الممكن أن تستعيد تراثها المفقود بعد الأحداث الأخيرة، بسبب حالة التسيب الأمني، والمصالحات مع أعضاء التيارات المسلحة، فضلاً عن إخراجهم من السجون، في تكرار لنفس الأخطاء المرتكبة في مرحلة السبعينيات، والتي أخرجت عفريت الجماعات الدينية ولم يصرف إلا بالدم، وفي حالتنا هذه سنكون كأننا أسلمنا ثورتنا ومعها بلادنا للتخلف، وستجري الدماء أنهاراً تحت أقدام من يظن نفسه قيماً على الدين.فأنا أخشى على الثورة التي أسقطت نظام عفن، أن تتحول إلى ثورة لحى، بعضها يقتل والأخر يدعي السلام، في مجتمع مازال يحاول أن يخطو خطواته الأولى في مواجهة ذاته، والتخلص أوهام جهل وتخلف تربعت على عرشه.
فالمجتمع الذي ينساق خلف شائعات ويساهم في تكوينها وتحويلها إلى حقائق، لهو بيئة غاية في الخصوبة لنمو أي تيار يُغيب العقل لصالح الوهم، والقانون لصالح الهيمنة، الدولة لصالح أمراء الطوائف.والثورة التي لا تعبر عن لحظة تنوير ومصارحة وحرية حقة، تاركة الوطن ينهار تدريجياً في حمامات الدم، فالنار أولى بها.والحكومة إن لم تطبق القانون بكل حزم وقوة دون مراعاة لأي توازنات سياسية وحسابات الأجل البعيد، فعليها الرحيل.فمصرنا التي تعاني من تخلف بعضنا وتهاون أخريين وعدم حسب القائمين على إدارتها لم تعد تحتمل مهزلة دولة قانون لا تطبق إلا في الإعلام وصفحات الجرائد.
وللحديث بقية طالما للمأساة بقية!

أكاديمي مصري
[email protected]