لا شك أن معظمنا يقشعر بدنه من مجرد السؤال، ومنا من يستعيذ من الشيطان ويهز رأسه يمينا ويسارا استنكارا للأمر، ويحمد الله على أنه quot;ابن حلالquot; ومن أسرة كريمة كأننا نحن من نختار آباءنا ومصائرنا!

هل تخيلت أن ينكرك كل الناس حتى من تسببوا في مجئيك إلى الدنيا في لحظة متعة عابرة، أو غلطة تدفع وحدك ثمنها مدى الحياة.. يفر أبوك مثل فأر مذعور، وقد تتخذ أمك قرارا غبيا بقتلك خلاصا من quot;الفضيحةquot;، أو يلتقطتك أحدهم من أمام مسجد أو صندوق قمامة، تصارع الموت، ملتحفا بالخوف والخذلان، تصرخ ربما يستجيب أحد.. تعيش ملوثا بتاريخ أسود وملتصقا بعار لم تقترفه، هويتك المثبتة الوحيدة هي: quot;ابن حرامquot;. تحمل اسم أمك أو اسم مجهول، تنشأ داخل مؤسسة اللقطاء ومجهولي النسب لتنقطع آخر صلة بينك وبين العالم الطبيعي، أو تُربى في أسرة بديلة بمبدأ الشفقة وفعل الخير، وفي كل الأحوال تُحرم من أبسط حقوقك الإنسانية، مثل الجنسية، والميراث، والزواج من العائلات المحترمة.. تتعلم كل صباح أبجديات الحياة بلا معنى، تدفع فواتيرا باهظة لأخطاء الآخرين وتعيش بقية عمرك تتذكر ذنب غيرك وتُعاير به في مجتمعات غالبا لا تغفر ولا ترحم مهما ادعت التسامح وتقبل الآخر.

حالات مأساوية

تحكي إحدى الزوجات: quot;مر على زواجي ثلاثة عشر عاما وقدر الله ألا أنجب أطفالا، ورغم رضائي بحكم الله إلا أنني من حين لآخر تراودي رغبة شديدة في وجود طفل بحياتي. نصحني أحد الأقارب أن أتبني طفلا، وبالفعل تبنيت طفل عمره شهر واحد من إحدى المؤسسات، وأخبرتني المسئولة أنه لقيط. فرحت به جدا لأنه صغير وسأربيه وأعلمه ويعوضني به الله خيرا. اخترت له اسما آخر وحاولت أنا وزوجي أن يكون ولدنا فعلا وكنا حريصين ألا يختلط كثيرا بالناس حتى لا يعرف حقيقة أمره.. عند دخوله المدرسة طلبوا مني أوراقه الرسمية فاستلمتها من المؤسسة وقدمت له بالفعل. مرت الأيام وبدأ يتغير سلوك الطفل ويميل إلى العزلة والانطواء والبكاء أحيانا دون سبب واضح، وعدم الرغبة في الجلوس بجانب زملائه في الصف ومع الضغط عليه قال أن أحد زملائه الأكبر منه (تربطنا به علاقة قرابة) أخبره أنني لست أمه وزوجي ليس أباه، وأن بعض أقرانه يرفضون اللعب أو تبادل الأدوات المدرسية معه!

دارت بي الدنيا ولم أعرف كيف أتصرف، تناقشت مع زوجي أن نغير اسمه تماما لينسب إلينا ونبحث مع محامي كيف يتم ذلك، لكن المؤسسة رفضت، وزاد الأمر تعقيدا أنني عرفت أن هناك فتوى تحرم نسبه إلينا وتحرمه من الميراث وأنه لا يعتبر محرما لي لأنه ليس ابني وعلي أن أتعامل معه حين يكبر كأنه أجنبي عني ولا يجوز أن يقبلني أو يعاملني كما يعامل الابن أمه! فما فائدة تربيتي وتعبي إذا؟ وكيف سيكون مصيره حين يكبر على هذه الحقيقة؟ والآن أنا لا أستطيع أن أستغن عنه وأعيده إلى المؤسسة ولا أعرف كيف أجعله يتوائم مع هذه الحقيقة المؤلمة؟!

ليست هذه هي الحالة المأساوية الوحيدة التي يمر بها الأطفال غير الشرعيين، حالات كثيرة أخرى نقف أمامها عاجرين عن التصرف أو الفهم، آخرها ما نشرته الجرائد مؤخرا عن ضبط سيدة تلقي برضيع مقتول في صندوق القمامة وأُكتشف في نهاية الأمر أنه quot;طفل سِفاحquot; تخلصت منه الأم هربا من العار والعقاب!

تعاني كل المجتمعات من هذه الكارثة الإنسانية، لكن كل مجتمع يشكل رد فعل مناسب لطبيعته وقوانينه الخاصة. يعرف الرجل سريعا طريقه إلى الإنكار والهرب من العلاقة بأكملها، معتمدا في ذلك على جُبن المرأة وخوفها من الفضيحة وعدم قدرتها على تحمل مسئولية علاقة محرمة شرعا وقانونا وضعفها في مقاومة مجتمع لا يرحم ولا يترك مساحة حرة لعلاقة الإنسان بربه وتحمله الفردي لمسئولية أخطائه.. بعض النساء يحاولن التخلص من الطفل جنينا في شهوره الأولى لتستر نفسها وتبدأ حياة جديدة تعتمد على مدى نضجها واستفادتها من هذه التجربة المريرة وقد تمر معها الحياة بسلام ولا يكتشف أحد جرحها الغائر.

أخريات تكتمل مأساتهن بإنجاب هذا الطفل quot;الورطةquot; فتضطرب داخلها أحاسيس الأمومة مع النرجسية، وغالبا ما تكون مخلصة أكثر لنرجسيتها ويدفع الابن ثمن ذلك لأنه يذكرها دوما بذاتها المجروحة وكرامتها المهدرة ومستقبلها المعتم، فربما تدفع حياتها ثمنا لهذه الفضيحة وتترك لأسرتها عارا لا يمحوه الزمن، من هنا تفكر بأن التخلص من رضيع جاء عن طريق الخطأ أفضل من تشويه quot;شرفquot; العائلة!

لم يسأل أحد نفسه: هذا الشخص الذي نحرمه اسم، ونسب، وعائلة، وجنسية، وميراث، وحق الزواج باختيار حقيقي، وحق الحياة الكريمة وتكوين أسرة، ومعظم الناس بما فيهم أمه وأبيه يتعاملون معه كما يتعاملون مع فضلاتهم، يعترفون أنه منهم لكنه غير منتمي إليهم.. فائض عليهم، لا حاجة لهم فيه! علاوة على المآسي التي يعانيها بعضهم داخل بعض المؤسسات من إهمال وإعتداء وعدم تقدير وربما تحرش أو استغلال جنسي.. الإنسان الذي ينشأ هكذا ما إحساسه تجاهنا؟ وما نظرته للمجتمع؟
المأساة مستمرة.. ما الذي سيوقفها أو على الأقل يخفف منها؟!

bull;لابد أن نعترف أن هناك عاملان أساسيا يشكلان عقلية الشخص الرافض للطفل اللقيط، وبالتالي نبذ المجتمع له أيضا.. الموروث الثقافي القَبلي الذي يعتمد على ضرورة اعتماد كل شخص على عائلة عريقة ذات حسب ونسب وأصل لا يشكك فيه أحد، والتدقيق في ذلك خصوصا في حالات الزواج، دون الالتفات إلى ما يستطيع الفرد صنعه بنفسه أو بأسرته البسيطة مثل الارتقاء بأخلاقه ومبادئه وتعليمه ومعاملته مع الآخرين، فمثلا كثيرين من هؤلاء اللقطاء استطاعوا تكملة تعليمهم إلى المستوى الجامعي وربما أعلى من ذلك، وفي الدول المتقدمة لا يؤثر كون الشخص ابن غير شرعي على تقلده مناصب عليا أو وظائف مرموقة طالما تتوفر فيه شروط هذا المنصب أو ذاك.. أما في مجتمعاتنا فغالبا مهما حاول الشخص تحسين قدراته ومهاراته العلمية والشخصية والروحية، فلن يغنيه شيئا عن التعرض للامتهان وافتقاده لفرص حياتية ومهنية كثيرة يستحقها، كما يصعب التعامل معه باعتباره إنسان غير منقوص أو مضطرا باستمرار للدفاع عن نفسه.

bull;العامل الثاني، الاعتماد على تفاسير وفتاوى علماء كثيرين يتفقون على عدم تبني ابن الزنا أو الحاقه بنسب أي أسرة ترغب في ذلك وحرمانه من الميراث، وحتى استلحاقه بأبيه مشروط بعمره في بطن أمه وقت اعتراف الأب بنسبه له، وهل أمه فراشا أم لا، وغيرها من الأمور مثل أن هذا الطفل لا يعتبر محرما لأخته في التربية أو للسيدة التي ربته وضحت من أجله، لدرجة أن البعض أفتى بجواز زواج هذا الابن من أخته أو أمه، وإن كانت فتاة يجوز الأب (الكافل لها) أن يتزوجها!.. من هنا فرغم الإجماع النظري على احترام هذا الطفل وجعل التقاطه وتربيته فرض كفاية على كل إنسان، إلا أن هذه الشروط تعجيزية، وبشكل واقعي لا تصب في مصلحة الطفل، بل على العكس تؤدي إلى إيذائه نفسيا واجتماعيا لأنه يظل طوال حياته موصوما حتى وإن تربى جيدا في كفالة أسرة محترمة.

bull;هناك علماء آخرين يجيزون أن ينسب هذا الطفل لعائلة ويأخذ اسمها وترضعه أخت أو بنت السيدة التي كفلته وبذلك يصبح فردا من العائلة، وعند الميراث يوصى له بالثلث، مؤثرين في ذلك مصلحة الطفل وحمايته من قسوه وظلم المجتمع لكي يعيش كفرد محترم ومحفوظ الكرامة. ولعله حل يتوافق الواقع الحياتي وأيضا مبدأ الستر، ولأن المحرمية في أساسها مفهوم نفسي ينشأ من التربية والمرجعية الأخلاقية والروحية التي ينمو الطفل في ظلالها كما أن الأبوان هما من يربيان ويبذلان الوقت والصحة والجهد والمال لرعاية الأبناء، وليسوا من يرتبطوا بالطفل بيولوجيا في لحظة طيش.

bull;لا تكفي وجود عقوبات على من يترك وليدا أو يعرضه للخطر. من الذي سيثبت ذلك إذا كانت معظم جرائم القتل أو الإلقاء في الشوارع تتم في الخفاء ولا يعرف أحد عنها شيئا؟! من باب أولى التركيز على قوانين تحفظ حق هؤلاء الأطفال في حياة كريمة.

bull;هناك بعض الخطوات التي اتخذتها بعض الدول العربية كنوع من حماية هؤلاء الأطفال وحفظ كبريائهم، مثل اقتراح تعديل القانون بحيث يسمح للمرأة بتسجيل أبنائها دون الحاجة إلى إذن الأب أو الاستناد إلى وثيقة الزواج، وفي حالة الابن من علاقة غير شرعية تنسبه الأم إلى أب مجهول، فإذا تصادف وجود رجل حقيقي بهذا الاسم عليه أن يتقدم للقضاء لنفي النسب.. كما أقرت دول أخرى أن الطفل المولود على أراضيها، حتى وإن كان غير شرعي، يحمل تلقائيا جنسيتها مالم يثبت أحد غير ذلك، منعا للاتجار بالأطفال أو استغلالهم.. وهناك من يعترض على هذه القوانين باعتبارها تسهل الرزيلة وتشجع على الزنا، وتساعد على اختلاط الأنساب! فهل تفشي العلاقات غير الشرعية وهذا العدد المخيف من أطفال السِفاح ينتظر هذه القوانين حتى يزداد؟ وهل لا يكون هناك اختلاط للأنساب في حال جواز معظم الفقهاء بإلحاق ابن الزنا للفراش؟ عملا بالحديث الشريف: quot;الطفل للفراش وللعاهر الحجرquot;. حتى وإن تنازع عليه الأب البيولوجي مع زوج الأم فإن أحقية الطفل تعود للفراش. لكن أغلب الاختلاف يكون في حال ألا تكون المرأة فراشا.

bull;الأهم من ذلك كله وضع استراتيجية قومية يقوم عليها المستنيرين في كل تخصص، لتعديل تلك المفاهيم البالية والثقافة الهشة.. هذا لا يعني أن الأصل الطيب والنسب المحترم والعائلة العريقة لا تجلب لأصحابها الزهو والفرح والقوة النفسية، لكنها في النهاية لا تعد وحدها محددات قوية لتقييم البشر واتخاذ موقفا عدائيا أو محقرا لمن يفتقد هذه المحددات، وفي التراث الديني الكثير من الأفكار والمبادئ والنصوص التي انتصرت لأشخاص لم تكن لهم مكانة اجتماعية كبيرة لكنهم اكتسبوا وضعهم من سلوكهم الشخصي وإنجازهم الفردي وشخصيتهم المتميزة.. فليتنا نقرأ بطريقة صحيحة، وننصت بحب إلى فطرتنا.