أكثر من ثمان سنوات تفصل بين سقوط عاصمتين عربيتين، وهي لعمري فترة قصيرة في منطق التاريخ الذي لايفقه معنى الفرادى من السنين بل العقود والمئات منها حينما يتعلق الموضوع بسقوط دول وعواصم وتغيير أنظمة بشكل جذري. فإن دل هذا على شيئ فإنه يدل على التسارع الكبير بإنهيار أنظمة متقاربة في عقليتها وأسلوبها، وثقافة متقاربة في عناصرها وأنساقها، ومنظومة أخلاقية تتشابه في مكوناتها وقيمها. فمن المحزن أن تسقط عاصمتين عربيتين بتدخل أجنبي. ولكن وبالرغم من ذلك، فإن ذلك الحزن تشوبه مسحة من فرح لبداية عهد جديد طال إنتظاره وإشراقة جديدة لشمس يوم جديد، حتى كاد أحدنا لايصدق أن أنظمة بهذه القوة والعتو والتحكم والتسلط والإستخفاف بكرامة الشعوب تسقط بهذه السهولة وكأنها جسد سليمان الذي لم ينهار إلا حينما أكلت الأرضة من عصاه التي يتكئ عليها. لكن الأدهى من ذلك والأكثر ألما ً وحزنا ً إن من بؤس القدر ومن سؤ حظنا العاثر صرنا نستمد أفراحنا من مآسينا، نفرح من إنهياراتنا وسقوطنا وتحطمنا وربما موتنا الذي كان مؤجلا ً، نرقص فرحا ً على أجساد الضحايا ونحن الضحايا إذ نرقص على أجسادنا التي أتعبتها سنين الظلم والجوع والإضطهاد ولم تنجوا إلا ببصيص من أمل كانت تحمله معها بإنتظار اللحظة الحاسمة بأن ينبثق نور جديد يحمل معه الدفء لتلك الأجساد العارية والأمل لأجيال المستقبل، إلا أن تلك اللحظة الرهيبة ربما تستغرق ساعتين يموت بها الدكتاتور أو أكثر من أربعين سنة حينما لايموت الدكتاتور أو يستسلم إلا ويرى فيها طائرات وبوارج ودبابات آتية عبر البحار من خارج الحدود.

لقد أخترت بغداد وطرابلس عنوانا ً للمقالة وذلك لأن كلتا العاصمتين سقطتا بالقوة العسكرية على العكس من تونس والقاهرة. فبغداد سقطت بيد التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة بشكل مباشر لتعلنها عاصمة محتلة، أما طرابلس فقد سقطت بيد الثوار الليبيين بمساعدة حلف الناتو. فلم تسقط العاصمتين ولم تتغير الأنظمة فيهما إلا بتدخل عسكري مباشر أو غير مباشر، ولكن المسافة بين ماهو مباشر وغير مباشر كبير جدا ً، فربما يختزل الدولة أو يضيع تاريخ ومستقبل شعب كامل فيها وذلك بأن يقضى عليه أو يعيده حيا ً بعد أن أمتص الدكتاتور دمه ورحيقه فصار كهلا ً لايقوى على شيئ إلا بقايا يستعيد بها كرامته الضائعة.

تبدأ في بلادنا القصة كالعادة بشكل كلاسيكي بثائر بسيط قادم من خارج العاصمة أو من أطرافها، متسلح برتبة عسكرية بسيطة أو أيدلوجية بائسة لاتعترف بالآخر، لكنه يحمل بداخله جرح كبير من الوطن الذي خذله، وغيض شديد من أولئك الذين يمسكون بصولجان الحكم من الطبقة الإسترقراطية أو البرجوازية. يسمي الثائر نفسه بالمخلص وذلك الجرح وتلك الخيبة من الوطن بهم الوطن، حيث يسعى إلى رفع ذلك الهم عن الوطن ومايرفع إلا هما ً عن كاهله بالإنتقام من ذلك الوطن الذي خيب ظنه، فيكبر وينتفخ حتى يخنق رفاق الدرب فيموتون ويخنق معارضيه ومخالفيه فيعدمون ليتقهقر الوطن تحت كرش الدكتاتور الذي ينتفخ... وينتفخ... وينتفخ... فما يخرج من هوائه إلا زعيقا ً وتهديدا ً لشعبه وأبناء جلدته ليصفهم بالجرذان أو ليعلمهم كيفية إستخدام الصابون وهو أبن الريف الذي مارأى شكل الصابونة في حياته من قبل. كل ذلك وهو يظن بأنه يحسن صنعا ً. لكن، فجأة، وفي لحظة لايحسب لها أحد، ينفجر الدكتاتور فيتطاير كالشظايا فيطير منه القش والطين، ويفش كما البالون من الهواء فيدور بسرعة كبيرة في محيط الوطن ليستقر أخيرا ً في حفرة صغيرة أو ملجأ متعفن متحصنا ً ببعض من إنتفخوا معه من بقايا ريح خرجت منه فيما مضى ليتحول إلى كائن ضئيل يفر منه مناصريه ويخونونه بوشايتهم به فيكون أشد حذرا ً منهم، أويعطف عليه أعدائه بأن يجنبوه غضبة الثائرين ضامنين له ملجأ آمن أو محاكمة عادلة.

الحديث عن طرابلس جميل هذه الأيام بالرغم من الجراحات التي خلفها الدكتاتور وضربات حلف الناتو. فهي حرة الآن يرقص أبنائها فرحا ً بعد سجن دام أكثر من أربعين عاما ً. لقد حررها الثوار الشجعان بعد أن مهد لهم حلف الناتو دخولهم الآمن وبعد خيانة قائد حمايتها لزعيمه القذافي، وما أجملها من خيانة حقنت دماء أبناء الوطن الواحد. أما بغداد، فالحديث عنها ذو شجون. لقد سقطت بيد محتل لايرحم بعد أن خانها حراسها ولم يوفوا بوعدهم بحمايتها، وهنا تتشابه طرابلس ببغداد بسرعة السقوط لكنها تختلف في نوع الخيانة. فقد خان حامي طرابلس زعيمه، أما حامي بغداد فقد فر أمام العدو وخان وطنه وواجبه العسكري بحماية العاصمة، فرب ضارة نافعة، فقد إنكشف زيفهم وخانوا الوطن، ولكن بخيانتهم تجنب أبناء الوطن مأساة أكبر كادت أن تحصل لو لم تسقط بغداد بهذه السرعة. لقد كان تدمير بغداد إنتقاميا ً، فلا تخلو زاوية من دم أو رماد لحريق أو رائحة الديناميت لعبوة ناسفة أعدت لمار بالصدفة. الحديث عن بغداد هو حديث عن القتل والتدمير والتطهير والإنفجارات وحرق مؤسسات الدولة عن بكرة أبيها، بل تعدى ذلك لينال التاريخ والمستقبل حين تسرق المتاحف ويباع التاريخ بالمفرد وتسرق أحلام الطفولة بمفخخة مركونة بزاوية مهملة من شارع قديم. لم تنته مأسي بغداد إلى الآن، فمن حرب إلى حصار إلى حرب مرة أخرى، فسقوط فأرهاب فصراع طائفي ففساد جعلها متربة بلا خدمات تنخر شوارعها حفر تملئها المياه الآسنة والقائمة تطول.

ماذا لو، و...لو... هذه لو زرعت لما أخضوضرت ولا أنبتت ثماراً، كما يقال بالمثل الدارج، ولكن لابأس من تذكر الماضي بها. أقول، ماذا لو ساعدت الولايات المتحدة الشعب العراقي لإزاحة النظام العراقي السابق! ماذا لو كفرت عن ذنبها عندما خذلت العراقيين في الإنتفاضة بعد حرب الخليج 1991 وجعلتهم لقمة سائغة بفم وحش متمرد على نفسه. ماذا لو إتفقت مع العراقيين بتأسيس حكومة إنتقالية في شمال العراق لتساهم في إسقاط النظام لو كانت جادة في ذلك كما الناتو الآن مع الثوار الليبين. هل سيموت مائة ألف وتخسر الولايات المتحدة التريليونات من رصيدها. هل أصبح العراق كبش فداء لكل من يتخيل شكل الفوضى والأرهاب وتخريب الدولة كلها؟ وأخيرا ً، ماذا لو تساهل الدكتاتور وتفضل علينا بأن يتنازل ولا يكون سببا ً بقدوم قوات غربية كما في العراق وليبيا؟ ما...ذا...لو...مع الأسف لاتثمر؟!

[email protected]