قد يسجل التاريخ للثورة الليبية انها أحدثت انعطافة في مواقف الرأي العام العربي من الغرب. فهذه لأول مرة يؤيد فيها قسم كبير من العرب استعانة شعب عربي بقوات غربية للمساعدة في اسقاط نظام حكمه المحلي. وقد يكون مرد ذلك الى قناعة سائدة وسط العالم العربي بأن القذافي لم يكن ليتورع عن شن حرب ابادة على شعبه اذا تركه العالم حرا في التصرف.
وفي هذه الأيام تتنامى ايضا، من داخل سوريا الثائرة وفي أوساط من الرأي العام العربي، دعوات لتدخل قوات الناتو من اجل ايقاف حكم عائلة الأسد عن ارتكاب المزيد من الفظائع ضد الاحتجاجات السلمية. ويبدو ان الأمور سائرة في سوريا نحو هذا الإتجاه. فمع اصرار الشعب السوري على ثورته السلمية، مقابل تمسك حكومته بالحل الأمني، فإن الفظائع ستظل دائرة، ما لم تواجه بخرق دولي من النوع الذي حدث مع ليبيا.
وعلى الرغم من ان الاستعانة بقوات اجنبية لاسقاط نظام حكم محلي ليست سابقة اولى من نوعها في العالم العربي، اذ حدث ذلك مع انتفاضة العراق عقب حرب الكويت عام 91 ، الا ان quot; القبولquot; بها هذه المرة لدى قسم كبير من الرأي العام العربي هو الذي يشكل سابقة.
وهذا تطور فكري ووجداني ملفت في هذا الجزء من العالم الذي شاعت فيه quot; عداوة الغربquot;، بدرجة أوصلته الى انتاج تنظيم وفكر كالذي تمثله quot; القاعدةquot;. ومثل اي عداوة او كراهية فانها أعمت الجمهور ووجهت اهتماماتهquot; خارج الميدانquot;، شاغلة اياه بقضايا زائفة، ما ولد نوعا سائدا من عمى البصيرة وجمود الاحساس تجاه ما ترتكبه الأنظمة العربية من فساد ومظالم وفظائع شنيعة.
وفي ظل هذا quot; الوعي الزائفquot; اصبحت مشكلة العالم العربي الاسلامي في المقام الأول مع البديهيات، مع الفطرة السليمة، أو مع العقلانية بالجملة. ماذا يفعل الانسان المحتاج الى مساعدة؟ يطلب المساعدة. ماذا ينتظر المصاب بطلق ناري؟ الإسعاف. وماذا يريد الفرد الموشك على الموت غرقا؟ الإنقاذ.
صحيح ان كل هذا مفهوم ومعقول ومعمول به في العالم العربي الاسلامي. ولكن فقط على مستوى الأفراد، وليس على مستوى الجماعات والبلدان. قبيل حرب الكويت، وفي مؤتمر عربي عن حقوق الانسان عقد في لندن، اذكر ان راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية طالب المؤتمرين بتضمين بيانهم الختامي توصية بمنع الاستعانة بالغرب في حل الأزمات المحلية او الوطنية.
الرجل على المستوى الشخصي كان لاجئا سياسيا في بريطانيا. استعانته بالمملكة المتحدة من أجل انقاذ نفسه من اضطهاد حكومته مفهومة، معقولة، وقد عمل بها كما فعل مئات ألوف العرب والمسلمين ، لجأوا مثله كأفراد، الى مختلف دول العالم الحر.
والقاعدة العامة لدى أغلبية هؤلاء هي ذاتها التي يصدر عنها الغنوشي: الاستعانة بالغرب لانقاذ الفرد نفسه مقبولة، بينما استعانة الجماعات والشعوب بالغرب لانقاذ نفسها ممنوعة.
لماذا هذه الازدواجية؟ لماذا تقبل لنفسك او لشخصك ما ترفضه لشعبك او لأمتك؟ هل الفرد اهم في عالمنا من الأمة؟
الجواب قطعا لا. الواقع ان التغاضي عن مسألة بحث الفرد عن الخلاص تعبير عن عدم اخذه بالحسبان، عدم اعتباره، ونسيانه من الأساس وكأنه غير موجود. والأمر نفسه ينطبق على الجماعة او الشعب ولكن من زاوية نظر معينة، وهي ان الأمة معنى تجريدي، فكرة، أو قيمة. وهذا التجريد لا يرى بصورة فعلية الأفراد أو الناس الذين تتألف منهم الجماعة، الشعب، او الأمة. انهم ليسوا ذواتا انسانية ملموسة، ليسوا بشرا متعينين بلحم ودم وشخصيات، وانما كتلة غامضة تمثل رمزا.
وهذا الرمز يرفع الى درجة من القداسة تمنع مساسها أو تلويثها أو طعنها باشياء من نوع اظهار ضعفها أو حاجتها الى المساعدة من أمم أخرى. وكل الأفكار السياسية، المعدودة quot; آيديولوجياتquot;، تفعل ذلك بشعوبها. اي تؤلهها على مستوى النظرية، ولا تقيم لها اي اعتبار على مستوى الممارسة.
ومقابل quot; تقديس أمتناquot; دأبت هذه الأفكار على شيطنة الغرب. فكيف يستعين الرحمن بالشيطان؟
ان ثنائية القداسة والشيطنة هذه هي من صنع العصر الايديولوجي العربي الذي بدأ مع منتصف القرن العشرين. وهذه الثنائية، أو هذه النظرة، ماتزال متغلغلة في عالمنا عند الحكام وعند الضحايا، عند الجلادين وعند الضحايا. فالقذافي مثلا يرمي الثوار بوصمة الصليبية، وأضرابه يسمونهم ثوار الناتو، والثوار أنفسهم تراهم، بطريقة أو أخرى، خجلين من اضطرارهم الى الاستعانة بالغرب.
ان quot; الثقل الفولاذي لعداوة الغربquot; الذي شيدته الايديولوجيا العربية المعاصرة مازال ساريا اذن.
ولكن مع ليبيا اليوم ومع سوريا التي يقود مأزقها الى نفس الوجهة الليبية، فان quot; الربيع العربيquot; يبدو أمام منعطف على صعيد الموقف من الغرب. ولعله منعطف تترتب عليه نتائج مهمة على صعيد علاقة العرب والمسلمين بتيارات العالم الحديث وبالخصوص منها الديمقراطية الليبرالية. ذلك ان الموقف من الغرب هو في الصميم موقف من العصر الحديث بكل ما يمثله روحيا وماديا.
ان الظلم هو ظلم سواء ارتكبته أنا أو عدوي، اسرائيل او خصمها الشرس المزعوم نظام الأسد. ولم يعد تشريع الظلم المحلي ممكنا باسم مقاومة ظلم أجنبي. لقد طال أمد تشريع او استساغة مثل هذا الظلم، حتى لم نعد نعرف كيف نطلب المساعدة من القادرين عليها ونحن ننهب ونعذب ونقتل.
لاشك ان الاضطرار الى الاستعانة بقوات أجنبية لحل أزمة محلية لا يعد مفخرة. فمن يتباهى بالعجز؟ ولكن ما العمل مع وجود أنظمة تستخدم كل أسلحتها ضد شعبها الأعزل؟ وما هو رب هذا الذي ينكر على شعب طلب الإنقاذ وهو يواجه الإبادة؟
اللهم quot; ناتوquot; على كل ظالم!