الاحتجاج الشعبي العراقي المتواصل منذ 25 شباط مازال يجري في اطار سلبي. فهو اعتراض على ما لا يريد الشعب، او شرائح كبيرة وعديدة منه، من دون ان يصل الى بلورة ماذا يريد. وموضوع الاحتجاج هو تردي الخدمات والفساد والطائفية. والمحتجون، الذين بدأوا التظاهر كل جمعة في العاصمة وبقية المحافظات، هم حتى الآن خليط من ثلاث فئات غير منظمة: ليبراليين، شيوعيين، مسحوقين.وقد كانت المبادرة الى هذا الاحتجاج من نصيب من يسمون في البلاد ب quot; شباب الفيسبوكquot;. ولا يزال هؤلاء يشكلون الطاقة المحركة له.
وبصفة عامة يمكن اعتبار الاحتجاج العراقي طاقة لم تاخذ شكلا. اذ يعوزه التنسيق بين الفئات المحركة له، كما يفتقر الى رؤية شاملة للوضع السياسي الذي يحتج عليه والى مطالب دقيقة محددة لتغييره. والتنسيق والرؤية والاهداف يمكن، اذا ما نما الاحتجاج ونضج، ان تتوضح وان تتحدد.
ان اهم الشعارات التي طرحها الاحتجاج العراقي هو شعار الاصلاح: quot; الشعب يريد اصلاح النظامquot;. وهو شعار ربما يكون ملائما للنفسية العراقية التي تكبدت الهوائل من الخضات الثورية والحربية. ولكن يبقى السؤال جديا عن مدى امكانية الاصلاح وايضا عن بدائل الاصلاح في حال تعذره.
لقد شهد العراق بعد 2003 quot; عملية سياسيةquot; لم تتمكن من صياغة نظام سياسي محدد الهوية، تسلطي او ديمقراطي. وهذا معنى اتفاق الجميع في البلاد على وصف ما يجري بأنهquot; عملية سياسيةquot;. اي انه مشروع عمل لم يصل الى صياغة ما يمكن اعتباره حكما او نظاما سياسيا محدد الهوية. ودستور البلاد الدائم نفسه ينطوي على صراع بشأن نوعية النظام الذي يريد الوصول اليه، فهو يعامل الاسلام كنظام سياسي تماما مثلما يعامل الديمقراطية.
ويبدو ان ما وصلت اليه quot; العملية السياسيةquot; هو بنية سياسية معيقة ليس للوصول الى نظام سياسي محدد الهوية فحسب، وانما الى تحقيق نظام يكفل تقديم الخدمة الاولى والاساسية لعمل اي حكومة وهو تحقيق الأمن. ذلك ان اساس هذه البنية يقوم على الطائفية. وهذه الطائفية تؤدي الى اعتماد نظام المحاصصة. المحاصصة تنسف العمل بقاعدة الشخص المناسب في المكان المناسب. نسف هذه القاعدة على مستوى عصب السلطة (اي القوات الامنية من جيش وشرطة واستخبارات) يقود الى اختلال الأمن والى استمرار الارهاب. اختلال الأمن يتسبب باضعاف سلطة القانون. والفساد هو نتيجة محتمة لاختلال او ضعف سلطة القانون.
وهكذا اصبحتquot; العملية السياسيةquot; بيئة حاضنة للطائفية والخدمات المتردية والفساد والارهاب. وهذه الآمراض او الآفات هي ما يقوم الاحتجاج العراقي ضده. وهو بذلك يطالب من حيث يدري او لا يدري بتغيير quot; العملية السياسيةquot; تغييرا جذريا. ولعل ذلك هو سبب حذر وخوف واحيانا عداء الطبقة السياسية بكل اطيافها لهذا الاحتجاج. والواقع ان اعداء quot; العملية السياسيةquot;، شأن جماعات العنف السياسي من بعثيين وقاعدة واشباههم، لا يقلون عداوة تجاه الاحتجاج نفسه، ولو بمحاولتهم استغلاله واستثماره لمصلحتهم. ذلك ان هذه المحاولة هي بالذات ما تريد لها السلطة النجاح حتى يسهل القضاء عليه.
وبعبارة موجزة فان الرمم السياسية المكونة للعملية السياسية ولخصومها العنيفين معا يقفون على مسافة واحدة من هذا الاحتجاج العفوي. هذه هي مأساته. وهذه هي ايضا معجزته. فقد خرج من وسط حصار. وظل ينمو وسط الحصار.
لقد اسفرت انتخابات 7 آذار 2010 عن تنافس على السلطة بين قوى الاسلام الشيعي من جهة وبين القائمة العراقية ذات القاعدة السنية من جهة اخرى. وجاء الحل عبر ماعرف بحكومةquot; مشاركة وطنيةquot; بقيادة التحالف الشيعي. جماعات quot; القائمة العراقيةquot; برروا مشاركتهم الحكومة بالخوف من ان يكون البديل هو مطاردتهم بتهم البعث والارهاب. وبدأ الجانبان مشروعا لم ينته لتقاسم السلطة. والى اليوم لم يسم وزراء الدفاع والداخلية والأمن الوطني بعد انقضاء عام على الانتخابات.
وكان معنى ان تصبح الطبقة السياسية جميعا حاكمة بهذه الدرجة او تلك هو ترك الشعب عاريا من قوة المعارضة البرلمانية، وهي القوة التي يحتاجها كل شعب في اي تجربة ديمقراطية. ولقد ذهبت الطبقة السياسية بعيدا للغاية عن شعبها باختيارها جميعا السلطة والامعان في تقاسم منافعها الى درجة تشكيل اكبر وزارة في العالم. بل انها لم تكتف بذلك وانما ارادت اضافة مؤسسة كبيرة اخرى للسياسات الاسترتيجية فوق الحكومة، ما يعني مناصب واموالا اخرى بلا طائل.
وهكذا شعرت شرائح عديدة من الشعب بأنها تركت وحيدة عزلاء من اي تمثيل، فتقدمت بهذا الاحتجاج لتمثل المعارضة. وقد استلهمت المثال مما يجري في العالم العربي، خصوصا مصر. هناك حيث حملت لواء التغيير طلائع غير مسيسة من الشباب، بعد ان شعرت بفساد الطبقة السياسية وشيخوختها.
لكن خلافا لحركات التغيير في العالم العربي فان الاحتجاج العراقي يجد نفسه محاصرا بطبقة سياسية تكاد تكون موحدة ضده، وبطائفية ذات امتداد شعبي تتوجس منه، وايضا بشرائح غير قليلة خصوصا من موظفين بسطاء تجد نفسها مستفيدة اقتصاديا قياسا لزمن الدكتاتورية والحصار. وهو زمن خلف آثارا مريعة في البلاد، ومنها ضعف الاحساس بقيمة الحريات. وقد روى لي بعض من اعتقل بسبب تظاهرهم ان الجنود يستغربون من احتجاجهم رغم تمتعهم بفرص عمل او وظائف.
ولم تظهر من الطبقة السياسية مبادرة تعاطف حقيقية مع الاحتجاج سوى استقالة نائب وحيد، هو السيد جعفر الصدر، وهي مبادرة ستكون لها على ما اعتقد اهمية كبيرة في وقت ما. فهذا اول سياسي يتخذ موقفا على هذه الدرجة من الحسم مع العملية السياسية. وهو ليس اي سياسي وانما رجل يتمتع شخصه بمصداقية عالية، كما يتمتع انتماؤه العائلي برمزية عالية كونه سليل المفكر الشهيد محمد باقر الصدر.
وقد تكون هناك رغبات مماثلة لدى نواب كثيرين ولكن quot; المأزق الطائفيquot; قد يمنعهم من اتخاذ مواقف مشابهة. فالقائمة العراقية، على سبيل المثال، لا تستطيع الانسحاب من المشاركة في الحكومة واتخاذ موقف معارضة برلمانية حتى لو ارادت، وهذا مستبعد، لأن ذلك يمكن ان يقود البلاد مجددا الى استقطاب طائفي، وهو ما يعيد شبح العنف الى اجواء البلاد. ولعل هذا وجه آخر من وجوه اختناق الناس من هذه quot; العملية السياسيةquot;. فالكتل الرئيسية المكونة لها لا تجتمع مع بعضها الا بسبب الخوف، كما لا تستطيع الافتراق عن بعضها ايضا لنفس السبب. والخوف هو الاسمنت الذي يلحم الطائفية السياسية، كما انه القوت الذي تتغذى منه العصبية الاجتماعية التي تأخذ شكل طائفة.
والسياسة كالحياة لا تستقيم مع الخوف. ان كلمة العرب هذه الايام هي ان الحياة لا قيمة لها دون اسقاط الخوف. والعراق لن يكون شذوذا. لقد كانت quot; جمهورية الخوفquot; مأساة. كانت جرحا عميقا في الكبرياء الوطنية. وتبدو اليوم ازالتها بأيد اجنبية كذلك. ولا شفاء من ذلك الجرح الا عندما يأخذ البلد مصيره بيديه نحو الحرية. ولعله يفعل بهذا الاحتجاج الكبير!
- آخر تحديث :
التعليقات