ردود الفعل الرسمية على تظاهرة الغد، الجمعة 25 شباط، تؤكد على نحو قاطع أن الصدق لا يمكن أن يجتمع مع السياسة في العراق تحت سقف واحد. وهذا ليس بالأمر الجديد على السياسة. إلا أن الجديد هو الخوف والأمل اللذان بملآن فضاء العراق هذه الأيام. فالطبقة السياسية مذعورة من أصداء الدعوة للتظاهرة. والناس خائفون على المتظاهرين من ألعاب الساسة وفي نفس الوقت آملون بتغيير ما. والشباب يبدون مسحورين بالتحدي.
الناطق الرسمي باسم عمليات بغداد أعلن منع الفضائيات من تصوير التظاهرات. وقال قبل 48 ساعة من الموعد المحدد للتظاهرة أن laquo;هيئة علماء المسلمين تعد العدة لاستهداف المتظاهرينraquo;. ونفى نية السلطات فرض حظر للتجول. ولكنه رفع وتيرة التخويف، آملا بحظر تجول طوعي من الناس، بحديثه حول معلومات عن احتمال تعرض التظاهرات الى كل أنواع الرعب التي شهدها العراق خلال الأعوام الثمانية الماضية: أحزمة ناسفة، قناصة، كواتم، سيارات مفخخة.
ولم تمض ساعات على هذا التصريح حتى ظهر على شاشة قناة العراقية الحكومية نائب مقرب من المالكي وهو يبرز quot; وثيقةquot; تثبت ب quot; الدليل القاطعquot; أن تظاهرات الجمعة quot; بعثية بامتيازquot;.ثم ظهر رئيس الوزراء نفسه على ذات القناة وهو يعلن عن نيته إلقاء خطاب اليوم الخميس لم يكشف عن مضمونه لكنه قال انه سيكون معبرا عن موقف أقطاب العملية السياسية من التظاهرات. واغلب الظن انه سيعلن حظر التظاهرة في هذا الموعد، ويطلب تأجيلها الى أي موعد آخر.
والواقع انه لا توجد مصلحة ولا قدرة للجثة المسماة quot;هيئة علماء المسلمينquot;، في ارتكاب عمل عنيف ضد التظاهرات. أما البعث فانه الرمة التي لا حياة لها إلا في بعبع تصطنعه الدعايات الحكومية كلما شعرت بحاجة الى ترويع الناس به. ورغم انه يمكن لأمثال هذه الرمم أن تحاول استثمار quot; 25 فبرايرquot; العراقي، الا ان موضوع الاحتجاج العراقي هو الثورة على كل الرمم من دون استثناء. انها الثورة على صناعة الموت التي تمرست بها السياسة العراقية بالجملة منذ سقوط الدولة وبداية الفوضى في عام 1958.
هناك في هذه اللحظة من التاريخ ثورة يصعب استيعابها على السياسة العربية، سلطات ومعارضات. مصدر هذه الثورة جيل شاب ليس له أدنى نصيب في لعبة السياسة، ولكنه بات مدركا كل الإدراك لحقه الكامل في لعبة الحياة، الحق الذي يمثل روح الأزمنة الحديثة، وهو حق التمتع بالرفاه وبالحرية. في تونس ثم في مصر كما في ليبيا اليوم لم تأت الثورات من أحزاب سياسية وإنما من شباب جاؤوا من خارج الأحزاب السياسية خصوصا ومن خارج السياسة عموما.
والشباب في العراق يقودون الاحتجاج أيضا. إلا أن دائرة الاحتجاج هنا على درجة هائلة من السعة بسبب التردي الفظيع للخدمات وانتشار البطالة والفقر فوق العنف الأعمى الذي يضرب البلاد بين الحين والآخر. وهذه الدائرة الواسعة من الناس، بالخصوص في الجزء العربي من العراق، مصابة بالدوار من ثورات تونس ومصر وليبيا، وقد أصبحت تطرح على نفسها السؤال المرير: كيف تثور هذه الشعوب ولا نفعل بينما هي لا تعاني عشر معاناتنا في سلسلة الحياة الممتدة من محنة الكهرباء إلى الموت الأحمر؟
وأما عن موت السياسة في العراق فحدث ولا حرج. فبعض الأحزاب من طبيعة غير تبشيرية كاليهودية، فهي غير معنية أصلا بكسب أعضاء جدد. إن ميزة الحياة أو الحيوية لدى أي حزب من الأحزاب مرهونة بقدرته على جذب الشبيبة. وهذه الجاذبية تكون حقيقية فقط عندما تأتي من الفكرة العميقة لا من المصلحة العابرة، من الإيمان بقدرة الحزب على جعل حياة الوطن أفضل، لا من القدرة على تحقيق منفعة شخصية مثل الوظيفة أو الزمالة الدراسية أو الحصول على مسكن وما أشبه. والحال فإن الأحزاب العربية شاخت وماتت بفقدانها هذه القدرة على جذب الشباب. ومن هذا الفقدان ولد التغيير الحالي. فالشباب هذه الأيام يملأ الفراغ السياسي الذي تسببت به شيخوخة الأحزاب.
ولعل المحنة في العراق اكبر. فقد دخل منذ 1958 في ضروب من الفوضى انتهت به الى اختزال السياسة بمسرحية من بطل واحد في عراق صدام. أما الفوضى التالية لسقوط صدام فقد تشكلت من quot;عملية سياسيةquot; تقوم على ثلاثة ركائز quot; عصمليةquot;، هي الطائفية والفساد والاختلال الأمني. وكل من أطراف العملية السياسية لا يبدو قابلا للحياة من دون اعتماد على بعض أو كل هذه الركائز. والبنية السياسية المترتبة على هذه المقومات يتعذر عليها تحقيق الخدمات في كل المجالات تعذرا تاما.
وقد لا تكون الرؤية هي هذه لدى الشبيبة من منظمي quot; 25 فبرايرquot;. فالشعارات المطروحة تتعلق بالفساد والخدمات. وهي شعارات صحية من دون شك. وهناك تركيز على المطالبة بتنحية المسؤولين الأساسيين عن الخدمات في بغداد، وهم المحافظ ورئيس مجلس المحافظة وأمين العاصمة. ولعل ابرز الشعارات المطروحة هو quot; الشعب يريد إسقاط الفسادquot;. وهو شعار رائع خصوصا وان العراق قد تحول الى فساد وله دولة، وليس دولة وفيها فساد.
ولكن آفاق الاحتجاج تبدو لي قابلة للتطور وللتصاعد، من موضوع توفير الخدمات ومكافحة الفساد الى تجاوز العملية السياسية نفسها. فالفساد سيبقى متحكما لأنه يتغذى من الطائفية ومن الاختلال الأمني الذي يمنع حكم القانون منعا باتا. وإن مثل هذا التطور مرهون بقدرة الشبيبة العراقية على تنظيم نفسها في حزب جديد، وعلى التمكن من رؤية طبيعة الأزمة العامة في العراق، ومن الوصول الى تحديد المهام المطلوبة لتجاوز هذه الأزمة، ومن ثم العمل لتحقيقها.
وفي اعتقادي، الذي كنت قد عبرت عنه منذ أواسط 2007، فان تجاوز الأزمة العراقية يتطلب مرحلة انتقالية، لسنة واحدة على الأقل، تتولى تحقيق المهام التالية:
-استكمال بناء قوة أمنية وأجهزة عدالة جنائية قادرة على فرض حكم القانون.
-تأمين انطلاق حملة لإعادة إعمار وتنشيط اقتصاد حر كفيل بتنمية المجتمع المدني وتعزيزه.
-تشريع قوانين تضمن حريات الكلام والتعبير والإعلام.
-تشريع قانون للأحزاب على أسس وطنية ديمقراطية تمنع استغلال المقدسات لأهداف سياسية.
-وضع قانون انتخابات يضمن آليات سليمة وعملية للتداول السلمي للسلطة.
إن اللعب بالسياسة الطائفية على المكشوف ذو عمر قصير ، يعود الى التغيير الذي حدث عام 2003. وهو لذلك لم يتجذر بعد في العراق كما في لبنان. وهذا يمنح العراق فرصة اكبر لتجاوز لعنة الطائفية. وقد يكون من المبكر القول أن quot; 25 فبرايرquot; يتجه الى هذا الأفق. فالتجربة نفسها لم تولد بعد، وبيننا وبين انبثاقها أو منعها ساعات. إلا أن أنفاسها الحارة تملأ فضاء العراق. وهو فضاء لم يعد مفصولا عن مد أول ثورة ديمقراطية في أرجاء العالم العربي.