لا تربطني علاقة ود من اي نوع بفكرة quot; الثورةquot;. هي عندي صنو الوحشية. الثورة الفرنسية، وهي النموذج الأهم في التاريخ، كانت عبارة عن سلسلة مديدة من المجازر لحقوق الإنسان، رغم انها شكلت الرافعة العالمية العملاقة لهذه الحقوق بالذات في المحصلة. فاذا كانت هذه هي الحال مع تلك الثورة العظيمة فما بالك اذا كانت الثورة من طراز ما تم وجرى في السلسلة العربية التي بدأت مطلع النصف الثاني من القرن العشرين ولم تنته الى أكثر من القذافي في المحصلة؟
ان القبول بفكرة الثورة يعني تزكية نهج الغاية تبرر الوسيلة، يعني تسويغ قتل ناس باسم فكرة تخدم الناس. وهذا اخطر ما فيها. هي ايضا ذات وجه متجهم بينما الفضيلة، على رأي مونتاني، ذات وجه باسم.
رغم ذلك وجدت نفسي ملزما باطلاق كلمة ثورة على معجزة شبيبة مصر. حسنا هناك ثورات سلمية ومؤدبة قليلة في التاريخ وهذه واحدة منها. الواقع أهمها. فقد ارتفعت طاقتها الأخلاقية الى مستوى مثالي. لقد كان الشباب على درجة من الروعة بحيث أطلقوا موجة من الأدب غمرت البلاد ورفعت العباد.
امام موجة الأدب هذه تهاوت الأجهزة القمعية المعتادة على اساءة الأدب مع الناس واحتقار حقوقهم. اختفت ظاهرة التحرش الجنسي الشائعة في القاهرة. سادت مظاهر السماحة والتعاون والنزاهة بين الافراد. أخذ الأهالي على عاتقهم مهمة حراسة البيوت والممتلكات، ثم التطوع لتنظيف الشوارع. وهناك في القاهرة نحو 12 مليون فرد من الفقراء الذين يلتفون حولها في بيوت عشوائية، وهؤلاء لم يندفعوا الى اعمال مشينة في ظل انهيار اجهزة الشرطة واختفائها الكلي ثم الجزئي خلال 18 يوما.
وكان لثورة الأدب هذه، في مصر كما في تونس قبلها، جناحان، احدهما الشباب اصحاب المبادرة، والآخر هو الجيش حامي المبادرة. والجيش المصري، الذي ادى دورا رائعا منذ انطلاقة ثورة 25 يناير الى اليوم، مدين في الواقع لبلده اولا وللعالم العربي ثانيا، بانجاز مهمة القطع مع تاريخ صنعه هو بنفسه. فهذا الجيش هو صانع ثورة 1952 التي اطلقت عصر الثورة في العالم العربي، عصر الخوف والدمار.
وكان من بين نتائج هذه الثورة تجميد الحياة السياسية في مصر مثلما في كل بلد عربي شهد تغييرا مماثلا. ولذلك فان الثورة الديمقراطية اليوم، التي فجرتها القوة الشبابية، تفتقد الى القوة التي من المفترض ان تبني دولة الديمقراطية، وهي الأحزاب. فقد حكمت ثورة يوليو 1952 بالحزب الواحد، وسار على منوالها الرئيسان السادات ثم مبارك، مع افساحمهما مجالا محدودا لأحزاب ضعيفة هامشية لا تمثل احدا.
وهكذا بعد 58 عاما من استيلاء الجيش المصري على السلطة لا يوجد في الساحة غير الجيش نفسه من يتولى قيادة مهمة نقل البلاد من نظام تسلطي الى نظام ديمقراطي.
ويبدو الجيش المصري، ومن خلفه هذه الموجة الشبابية الهائلة، الى جانب عقول وكفاءات سياسية وادارية وقانونية كبيرة، مؤهلا للقيام بهذه المهمة العسيرة والشاقة. ولكن هل سيكون دوره quot; الديمقراطيquot; هذا نموذجا مؤثرا على جيوش الجمهوريات العربية مثلما كان تأثير دوره quot; الدكتاتوريquot; هائلا قبل 58 عاما؟
المؤكد ان ما كان يعرف في المجال الأمني بالخيار العربي، وهو خيار الابادة تجاه حركات الاحتجاج او المعارضة السلمية، يصبح اكثر صعوبة يوما بعد آخر بفعل شبكات التواصل الألكترونية. والمؤكد ايضا ان لهذا التحول الكامل في مهمة الجيش المصري، من اسقاط نظام ديمقراطي الى رعاية انتقال نحو نظام ديمقرطي، تأثيره في البلدان العربية الأخرى.
ويبدو ان هناك جيشا عربيا موضوعا تحت اختبار كهذا حاليا هو الجيش العراقي. فقد قرر شبيبة عراقيون التظاهر في ساحة التحرير وسط بغداد، يوم الجمعة المقبل، 25 شباط، الذي سيتزامن مع ذكرى مرور شهر على انتفاضة أنظارهم المصريين. واغلب الظن ان التظاهرة ستكون مختلفة من حيث الحجم والنوعية والهدف، ذلك انها وليدة لحظة تاريخية عربية فريدة تحتل مركز اهتمام كل العالم.
ودستور العراق quot; الديمقراطيquot; يحمي حرية التعبير. ولكن الخطر يبقى قائما، خصوصا اذا اتسعت التظاهرة، وطالت اياما، في ظل احتقان كبير للغاية في البلاد بسبب الفساد المستحكم، وهشاشة الوضع الأمني، وتردي الخدمات، والفقر، والمعدل القياسي للبطالة.
وظروف الشاب العراقي لا تشبه ظروف نظيره وائل غنيم. فهذا درس بالجامعة الاميركية في القاهرة وعمل في دبي. وذاك يغلي على جمر النار. الجيش العراقي بدوره ليس قصة مستقرة شأن جيش مصر. فهذا الاخير لم quot; ينقلبquot; على دوره المهني طوال اكثر من مئتي عام سوى مرة واحدة مع حركة الضباط الأحرار. في حين ان جيش العراق تمرس بانقلابات كثيرة منذ 1936 ، وتنوعت ادواره وحجومه واستخداماته على مدى 90 عاما منذ تأسيسه في 1921 حتى حله المأساوي عام 2003 .
كما ان دوره بعد اعادة التأسيس خلال الاعوام الثمانية الماضية اختلف جذريا عن الوظيفة التقليدية للجيوش، وهي مواجهة الأخطار الخارجية، فهو يقوم بمهمات الشرطة في الاساس، من مواجهة الارهاب الى حفظ الأمن الداخلي، وتنتشر سيطراته داخل المدن والبلدات اكثر مما تفعل قوات الشرطة نفسها.
ان هذه الوظيفة الى جانب حداثة اعادة التاسيس، والطرق التي تمت بها، وظروف البلد المعروفة عموما بعد الغزو الاميركي، لم تسمح بتكوين عقيدة تربط جسم هذا الجيش وتلحم نسيجه، وهو في ذلك شأن بلده الذي تعصف به اهواء طائفية واثنية ومناطقية.
ولكن ربما اتاحت موجة الاحتجاج الشبابية في بغداد للشعب وللجيش معا تنمية عقيدة وطنية جامعة، خصوصا اذا احسن المحتجون التنظيم، واتبعوا اساليب مبتكرة، واظهروا جهادية وعزما، وجاءوا بوجوه باسمة، ووضعوا لأنفسهم اهدافا عملية محددة وجذابة، تجر شرائح اخرى من المجتمع، وتعبر عن ما يمور في أعماقه من تطلعات تنتسب الى روح رياح التغيير الدائرة في العالم العربي هذه الأيام. ان احدى العلامات الفارقة لهذه اللحظات التاريخية هي نجاح ثورتين اعتمادا على تلاحم ركيزتين: شعب وجيش.
ولربما لا يوجد جيش في هذه المنطقة في حاجة الى quot; صورة حلquot; شأن الجيش العراقي. فهو على ادوار وطنية مشرفة له، كثيرا ما حرفت اهواء التطلع الى الحكم والسلطة وظيفته ومهمته . وكانت هذه الاهواء مفهومة وربما مهضومة في عقود تأسيسه الأولى. ففي كل الدول التي كانت تنشأ حديثا في العالم الثالث، كان الجيش اول مؤسسة وطنية منضبطة وقوية تتكون، وكان يلعب دورا في وحدة البلد وفي تحديثه، الأمر الذي عمل على تنمية الدور السياسي، غير العسكري، للجيوش في مختلف بلدان العالم الثالث.
ولكن محنة الجيش العراقي اشتدت وتفاقمت على مر السنين. من انقلابات فاشلة، الى صراعات حادة بين قياداته بعد توليه السلطة عام 1958 . ثم عانى اشد الاختبارات مع ارغامه على شن حروب داخلية واخرى خارجية خطيرة، خصوصا في ظل عراق صدام، وصولا الى وضعه في مواجهات لا قبل لجيوش من العالم الثالث بها، مثل غزو الكويت، هنا حيث وجد نفسه في حرب مع الأمم المتحدة او تحظى بمباركة الأمم المتحدة عام 1991 . ثم في حرب مع الولايات المتحدة عام 2003.
ولعل كل ذلك اصبح من التاريخ. ولكن الذي لم يصبح من التاريخ بعد هو استمرار صراع الساسة من اجل السيطرة عليه، الى جانب ما يعتري دوره وبنيته من تشوهات وتغييرات ونواقص.
هناك لحظات نادرة من التاريخ تجد الشعوب نفسها في ذروة أخلاقية اشبه بحمام ينفض عنها ما علق بها من أدران، لتنطلق نظيفة وخفيفة وحرة الى امام . لحظات باسمة كالفضيلة. وقد عشناها مع تونس. ثم عشناها وتفاعلنا معها وما زلنا نفعل مع مصر. ثمة روح جديدة تسري في العالم العربي. وها هي تحط في بغداد. لعلها تحسن الاقامة، ولعل الجيش يحسن استقبالها. ثم ..من يدري!
- آخر تحديث :
التعليقات