لا احد يستطيع اختراق الحاجز بين الانسان والاله. الأول حقيقة ملء الكفين. والثاني حلم يقع فوق جميع الأحلام. المهمة مستحيلة. ولا أحد من الناضجين يعتبرها مهمة جديرة بالإعتبار. ولكن كم منا يمكن تصنيفه ضمن فئة الناضجين؟
قلة؟ من دون شك. والنضج درجات بلا نهاية. والسلطان هو المختبر الأعظم لمستوى نضج الانسان. فمتى وضع فيه وخرج عن طوره شطب من فئة الناضجين، وانضم الى قافلة الحكام الاطفال الذين شغلوا ثلاثة أرباع تاريخ السلطة.
ولكن كما ان النضج درجات فان الطفولة بين فئة كبار السن طبقات. أندرها اكثرها انحدارا واشدها رعونة. الفرد في هذه الطبقة عندما يعبر ذلك الحاجز الخالد بين الانسان وبين الإله يفقد الصلة بالأول ويجعل الثاني اداة من أدوات الطيش والكذب والقسوة. فلا يعود للانسان ولا للإله مكان في وجدانه.
اين الإنسان وأين الله في مثال معمر القذافي؟ اين قيم الأرض وأين قيم السماء في شخصيته؟ العالم هو شخصه، والله احدى وسائله. وسيلة لا اكثر ولا أقل. اذ لا وجود لشيء سوى مجده الفارغ كليا من أي مضمون من مضامين المجد. انه في الواقع منحدر بلا قرار. وهو بما انه كذلك يستطيع ان يكون مركز جذب الأنظار أينما حل وكيفما ظهر. فالتاريخ لا يجود بمثل هذه المسخرة كل يوم: ملابس فريدة لا نظير لأشكالها وألوانها. كلمات فالتة لا شبيه لشذوذها وخروجها عن المألوف. حراس نساء في مجتمع محافظ، تنتسب بعض طرق عيشه الى ايام سيدنا آدم على حد تعبير الراحل بو رقيبة.
الاسم الذي اختاره لدولته لا يقل تفردا عن لبسه وكلامه وحارساته:quot; الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمىquot;. كذلك هو منصبه quot; الرسميquot; : قائد. وقد اسبغ على نفسه اخيرا منصب quot; عميد الحكام العربquot;، كما تفضل مشكورا بقبول منصب كرمه به بعض زعماء القارة السمراء:quot; ملك ملوك أفريقياquot;. ثقته بنفسه فائضة عن الحد تماما مثل شكوكه الفائضة عن الحد بكل من حوله. ان التنكيل بعقل الناس احدى نتائج ثقته . كما ان اراقة الدماء أفدح حصائل شكوكه.
ذلك سحره. سحر العار المعتمد اسلوبا علنيا للحياة: من لا تلفت انتباهه عفطة في مكان عام؟ ولقد كان الرجل عفطة حاكمة. وقريبة من ذلك تماما اشهر مفردات زمنه وهيquot; طزquot;. كانت شعارا رسميا: quot; طز في امريكاquot;. والليبيون كانوا يسخرون منها في الثمانينيات في تعبير شاع بينهمquot; تقول طز وتبي رزquot; في اشارة الى أزمات المواد الغذائية الدورية في البلد الثري.
الرجل تجرد من اي قيمة من شأنها ان تعز شيئا في الأرض او في السماء. وجلس منشغلا بهم لا يعلو عليه هم وهو أن يكون فوق كل شيء. ولكي quot; يصعدquot; الى هذه المنزلة كد واجتهد بكل قواه لإنزال شعبه الى العدم، فقرا في مستوى المعيشة، وإقالة على مستوى التفكير، وعقما شاملا في كل شيء. النظرية الثالثة تكفي الشعب وتزيد.
ولكن هذه الخدمة quot; المحليةquot; أصغر من طاقات العقيد العالمية. ثم ان الرجل أتمها وأجاد. وهكذا عبر حدود ليبيا ، بعدما اعتقد انه أخصاها، ليكون سببا في أي شيء يجعله حاضرا في الأرض، من تايلند الى كشمير الى ايرلندا. سلاح هنا مال هناك وبنزين في كل بقعة مشتعلة أو قابلة للاشتعال. لكن كل هذا الطيش مرهون بسلامته. فمتى ما أصبح الخطر جادا، واقترب من كرسيه، عاد الى الهدوء وآثر السلامة، مثلما يفعل الطفل المشاكس تحت التهديد.
والعقيد يصدق ان التهديد ممكن من الدول quot; الامبرياليةquot;. فهذه بلدان يأخذها على محمل الجد، يخشاها، يخاف منها: وكان ذلك هو الشيء الوحيد الذي أثبت ان لquot; العقلquot; مكانا في شخصيته. ولا غرابة في هذا لأن السلطة هي عقله الوحيد. ربه وهواه. لكن هل يعقل أن يأتيه التهديد من quot; أبناء جلدتهquot;؟ من ليبيين؟ من quot; الجرذانquot;؟ من quot; المعفنينquot;؟ من quot; المقملينquot;؟
لا هو يصدق ولا ذريته. انه لا يصدق هذا العالم، العالم نفسه الذي قبل به، تعامل معه، وجعل من وهمه، وهم القائد الاله، حقيقة واقعة على مدى أربعة عقود. الأطلسي مع quot; الجرذانquot; عليه؟ يا لله ول quot; الربيع العربيquot;. كان الرجل سيجعل من ربيع ليبيا خريفا صفصفا لولا وقفة المجتمع الدولي النبيلة. لاشك ان العقيد مستغرب اشد الاستغراب من هذه الوقفة. فقد اعتاد شراء الكبار والصغار بأموال quot; الجرذانquot;، وبأنواع اخرى من الرشى، بما فيها المعلومات والتقارير مثل أي مخبر. ما لهم التموا عليه اليوم؟
هناك حد لكل شيء يا رجل. ان الله موجود. والضمير الانساني موجود- على الأقل حين يلوح شبح ابادة جماعية. وشعب ليبيا موجود وهو يصنع اليوم مجدا فذا فريدا، يصنع نهاية الدكتاتور العربي الأبشع، ذلك الذي تفوق على صدام حسين نفسه- من زاوية معينة على الأقل: فهذا الأخير جاء نتاج سلسلة مريعة من الانقلابات والإحتدامات. أما ليبيا فلم تعرف عن شعبها العواصف، وانما نزل عليها هذا الوغد مثل كارثة طبيعية.
العقيد لن يصدق. لن يصحو من سكرة العمر. سيهلك حتما دون ان يستيقظ. سيقضي غالبا دون أن يسلك الطريق الى المحكمة، ولسوف يحرمنا بذلك فرصة فرجته الوحيدة التي تستحق الفرجة. ذلك المبذر الأعظم على مجده اللامجيد لن يكون كريما على مسرح هوانه، فالستار لا يرفع عن جثة.