الهوية تعبير عن الذات واستحضار دائم للموروث.وهي الكينونة والخصوصية. وبتعبير الأستاذ بلقزيز:هي الأنا الجمعي.
الهوية إذن تعبير جماعي عن كينونة متميزة بخصائصها الإثنية والثقافية والعقائدية والتاريخية عن باقي الجماعات، من غير استعلاء أو استفراد بعناصر التمايز العنصري،على غرار الهويات النازية والفاشية وكذا الصهيونية المقيتة.إذ الهوية لا تعني بالضرورة انغلاق على الذات، في عشق رهيب وعجب مريض لأناها الفريدة حسب اعتقادها، ورفض دائم للآخر، حتى وإن كان مسالما راغبا في تجسير العلاقة وفق ما تقتضيه المصالح المشتركة.
ولكل أمة لها جذور مشتركة في الأصل والفصل والثقافة والعقيدة واللغة والتاريخ كما هو الحال في الأمة العربية و الإسلامية لابد لها أن تتناغم وتنسجم الأواصر فيما بينها، حتى وان باعدت بينها الشقة السياسية والفرقة الجغرافية.بخلاف المجتمعات المتعددة الأعراق، المندمجة فيما بينـها في quot;مواطـنةquot; معينة قـصد تحقيق مصلحة ما.تنـدمج في الزمان والمـكان، وفــق تصور جمعـي متفـق عليــه سلفا وفق دستور معين، تنضبط إليه الجماعة في حين، وتتمرد عليه حين آخر...
غير أن ما نقصده بquot;الهوية quot;أو الأنا الجمعي لquot;ذات quot;ما، هي الخصوصية الثقافية المستمدة من مرجعيتها المتأصلة في منقولها ومعقولها (وهنا نقصد بالكلام الهوية الإسلامية).فأما المنقول فهو كل ما تم تدوينه من كلام الله عز وجل بلسان عربي فصيح، متضمن بين دفتي القرآن،محفوظ من كل زلل ونقصان، به من الشرائع والأحكام ما يغني المجتمع ويحفظ له تميزه عن باقي الأجناس والكيانات.وتسمو به إلى مدارج الكمال،ما دام قد وعد أمته بالخيرية في هذه الدنيا وفي الآخرة،ما إن استمسكوا بالعروة الوثقى لا ينفصلون عنها ولا يتحولون. وهذه الخصوصية الثقافية غير ساكنة ولا جامدة، كما قد يتوهم كل ذي نظر محكوم بالرأي المؤدلج سلفا.بل هي متحركة في الزمان وفي المكان،يمدها ـأي هذه الهوية الثقافية عقلاءها بما يلزمها من حياة متجددة،ودماء نظرة من خلال عملية التجديد الاجتهادي،الذي لا ينبغي أن يتوقف إطلاقا ما دام القرآن يتلا آناء الليل والنهار، وسنة المصطفى محفوظة مدروسة في كتب السنن والجوامع..فالتغير إذن سمة لازمة للذات المسلمة وفق سنن الكون والتوجيه الرباني لا يحيد عنه إلا هالك.ولذلك أشار القرآن في تقريع شديد،ومصير عسير للآبائيين الصامدين على الضلال، الذين يرددون لازمتهم السمجة:هكذا وجدنا آباءنا وعليها نموت، وبذلك هم للحق رافضون و بماض خلا مرتبطون. يؤمنون بقدسيته فلا يرتابون في أوثانهم، فيظلون لها عاكفون حتى وإن كانت من الحجارة. والقرآن، إذ يعمد إلى إبراز الخلل المنهجي في تصور هؤلاء ألآبائيين إنما يدعو أهله إلى التفكر في الآيات المبثوثة في الأنفس والآفاق.فالعقل الإنساني قد يعتريه من السقم ما يعتري كل جسم حادث.خلال رحلته الطويلة،بحثا عن الحقيقة،في الحال والمآل.ولذلك من رحمة الله بخلقه أن هدى إبن آدم منذ خلقه على صورته الكاملة،جسدا وعقلا،فلم يتركه في بحر لجي من الظلمات،تائها لا يميز الحق من الباطل. بل قيض أنبياء ورسلا تترى لهذه المهمة حتى لا يتغول في جهله ويساير أهواءه فتستحيل معه الحياة.
وأما بخصوص هذه الأمة فيخبرنا النبي أن مسألة التجديد سنة كونية ثابتة فيها لا محيد عنها بدليل نص الحديث الصحيح :quot;إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها quot;. فالتجديد صفة لازمة للذات المسـلمة وعنوان لديـمومتها وحركتيـها ضد الجمود والتـكلس الفكري والنظرة النمطية للدين والتراث عموما،حتى لا يأخذ الماضي صفة القداسة فيستحيل معه نقده وتمحيصه.
لكن ما الذي يدفع إلى إعادة إحياء السؤال القديم الجديد:من نحن ومن الآخر؟ ولماذا تتعاظم أهمية الحديث عن الهوية في الآونة الأخيرة ؟هل حقيقة لازلنا لم نتجاوز بعد إشكالية الآخر في علاقته مع الأنا؟ وهل ثمة أمل في تجاوز ألأنا لمعيقات الواقع والانخراط في quot;حداثةquot; أصيلة وغير مستوردة ؟ وعلى مدى أي مسافة يقف الأخر من حداثة هذه الأنا ؟
أسئلة عديدة تتوخى هذه المقالة ملامسة بعضا من أغوارها.
لعل الصدمة العنيفة التي تولدت مع الحملة النابليونية في القرن الثامـن عشر تجد لها رديفا،وإن كان بدرجة أقسى وأمر مع الحملة الأمريكية في بداية الألفية الثالثة على الشرق الإسلامي،قد بعثت هذه الأسئلة الموجعــة بكثير من الحدة من جديد. فالحملتان معا اندرجـتا ضمن الحملات الإمـبريالـية التي استهدفت في مجملها تطويــق العـالم الإسلامي quot;وتلتــينهquot; حسب تعبــير الدكتور quot;احمد ألعماريquot;في نطاق الصراع المحتدم بين quot;الجامعة الإسلامية وغريمتها quot;اللاتينية التي حاولت،ولاتزال تحاول تطيق العالم الاسلامي من جميع الجهات.. فالحملتان معا ولدتا حقدا دفيــنا لـدى الطرف الآخر،وهو ما نتج عنه ردة فعل عنـيفة في مناهضة هذه الرغــبة الغربــية الجامحة في اخـتراق العالــم الإسلامي.
لقد كانت الحملة النابليونية على مصر إيذانا للنخبة في تلك الفترة لصياغة سؤالها الأنطلوجي:لماذا تأخرنا وغيرنا تقدم؟
ومع الحملة الأمريكية على العراق، ومن قبل أفغانستان، يعود السـؤال ذاته ولكن بصيـغة أكثر إستراتيجية: ما الذي يهدف إليه هذا الأخر من العالم الإسلامي ؟
الواقع، صياغة هذا السؤال القديم الجـديد، في هذا الظرف بالذات،ليعدquot; ضـرورة فكريــةquot;،ومشروعا استراتيجيا للنهضة والتــقدم والاستقلال في الوطن العربي.ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتباره ترفا فكريا،أو اجترارا لموضوعات القرن الماضي كما قد يتوهم بعض الحداثـيين. إنه سـؤال جوهـري في الفكـر العـربي المعاصر.بل و ينبغي أن يغـدو كذلك ويلـزم أن تفرد لــه المجامع والمعاهد وتنصرف إليه الطاقات الحية في الأمة.فنحن أمة فوتــت على نفسها شروط نهضتها حينما لم تســتكمل أجوبتها مع رواد النهضة الذين صاغوا سؤالهم الانطـلوجي آنذاك:من نحـن ؟ومـن الآخر ؟ولمـاذا تـقدم غـيرنا وتأخرنا نحن؟ ومن هنا يغدو سؤال الهوية في هذا الظرف سؤال وجود لا سؤال حدود فحسب.فإما أن نكون أولا نكون.
إن إعادة بناء الأمة فكرا وزحفا، يستوجب البحث في هياكلها التنظرية،وفق معايير علمية مستحدثة، تتجاوز لحظة التيه بين أروقة النظر المستورد،التي طالما أضاعت على العقل العربي وقتا ثمينا في البحث عن الحلول الحقيقة لإشكالية النهوض وبناء الذات. فالتوجيه الإلهي لهذه الأمة قد أرشدها، بدليل الآية الكريمة،إلى أن بناء الذات يسبقه العزم والحزم في آن معا :quot;إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم quot;quot;ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصيرquot;.فالتغيير مسألة نابعة من النفس،والنصرة والولاية من الله ثابتة ثبوت الموقن في الله الآخذ بالأسباب والمتسلح بالعلم الكوني، المهذب بالروح الدينية حتى لا ينفصل عن جوهر الأخلاق في اندفاعاته الاستكشافية ونزوعه المختبرية،ويمرق إلى إخضاع كل القضاياquot; للتجربةquot;والإستدلال العلمي المخبري بحجة الدقة بالتجربة العلمية، وهو الأمر الذي لا يستقيم في ثمة أمور،هي محجوبة عن العلم بالضرورة ولا ينبغي إنكار وجودها ومن يؤمن بها كقضية الايمان بالله واليوم الآخر والرسالات والقضاء والقدر،أي تلك القضايا المحسوبة علىquot; المعتقد الدينيquot;..
غير أن تجاوز مظاهر البؤس الفكري في العقل العربي المعاصر يستلزم الحسم النهائي في إشكالات بعينها،وفي مقدمتها تحديد العلاقة مع الآخر الذي يقف على مسافة مهددة لهذا الوجود.
والحديث عن العلاقة مع الآخر لا يعني بالضرورة حديث صدام أو تنافر، وإن بدا مجمل سلوك هذا الآخر معنا عدوانيا تجاه كثير من قضايانا المصيرية،إما من خلال الانحياز التام إلى المغتصب المعتدي على أراضينا، كما هو الشأن في فلسطين و العراق و افغانسان، أو بالاعتداء على مقدس أمتنا برسومات كاريكاتورية مستفزة مهينة لشخص الرسول الكريم.
ومع ذلك، فالمطلوب هو البحث عنquot; المشترك quot;في الآخر/ الإنسان،الذي يؤمن بتحاور الثقافات، بالمودة والحسنى، ويجنب الإنسانية متاعب الشقاق،ومآسي العراك والفراق.
لكن بناء العلاقة مع هذا الآخر، مرهون بطبيعة الذات التي ستنسج تلك العلاقة مع ذلك الآخر ؟أهي ذات ند؟ ذات مستقلة؟، تثق في موروثها الثقافي والتاريخي والحضاري ؟ أم أنها ذات ترتهن إلى أغلال الواقع وتستجيب لإملاءات الخارج،حتى وإن كانت إملاءات تستهدف شخصيتها و استقلالها وبالتالي تكون ذاتا موسومة بما وصفها بها المرحوم مالك بن نبي، ذاتا لها قابلية للاستعمار، ما دام أنها تتماهى مع الآخر في استلاب تام لا تبقي معه لكينونتها quot;شخصيةquot; متميزة.
ولعمري صياغة أجوبة لهكذا تساؤلات كفيل بإحداث مخرج من مثل هذه الاشكالات،وهي بداية صحيحة في بناء quot;حداثة quot; يمكن اعتبارها حداثة quot;أصيلةquot; وليست بالضرورة مستوردة..
- آخر تحديث :
التعليقات