ذات يوم عدت الى منزلي في بغداد بعد تركه لنحو عامين. وكان من بين ما لاحظته ان حمامة ابتنت عشا داخل جهاز التبريد(الايركوندشن) في احدى غرفتي الطابق الثاني. اختارت المكان الخطأ. ماذا أفعل؟ الجواب محسوم. فلا احد يترك جهازا بيتيا مهما لحمامة برية طارئة. والحق ان اهمية الجهاز كامنة في ذاته، وفي ثمنه أكثر مما في وظيفته. ذلك ان عمله رهن بتحسن الكهرباء الوطنية، وهذا أمر متروك للمستقبل. وانا لا استخدم تلك الغرفة وانما هي اصلا لاستخدامات الطوارىء، عند مجيء ضيوف quot; بياتةquot;.
هل أتكرم على الحمامة وأبقي لها عشها؟ لم ترق الفكرة لي ولا لأقرباء جاؤوا معي للمساعدة في حملة تنظيف المنزل. والفكرة، رغم ادراكي لاستحالتها، كانت تعني لي شيئا. فالعش بيت. وليس هناك من يقدر معنى البيت اكثر ممن تهجول مثلي بين عشرات البيوت في بلدان العالم. وهذا البيت نفسه قد جاء اختياري له خاطئا تماما مثلما فعلت الحمامة. لست اكثر ذكاء من الحمامة. جميع من عليها خطاء بن خطاء.
وبين خطأ وآخر هناك فرق. اذا هدمت عش الحمامة فانها لن تموت. أما وجودي في هذا البيت فكاد يكلفني حياتي. لقد بهرني تصميمه الساحر من الداخل. وخدرتني رائحة الشبوي في محيطه. ولم يكن يبدو بعيدا حينما كان الأمل يقرب كل شيء، وحينما كانت المدينة آمنة والشوارع سالكة. لذلك اشتريته. لكن فيما بعد، لما اشتعلت الحرب الأهلية عام 2006 ، اكتشفت خطأي الشنيع. كان سكان الحي الذي يقع فيه ينتمون الى طائفة غير التي اتحدر منها، وتلك الحرب دارت بين الطائفتين، وتحولت منطقة بيتي الى جبهة بكل معنى الكلمة.
ولما انطوت صفحة الحرب وحل quot; الهدوء النسبيquot;، جاءت تلك العودة الى منزل القلق. ومن يومها هدمنا عش الحمامة، ونظفنا جهاز التبريد تنظيفا يليق بدوره المنتظر في المستقبل. ثم طرأت ظروف وتركت المنزل ثانية، او ثالثة بالأحرى، بعد ان غادرت بغداد. وكلي اليوم حسرة عليه، لأنني وقعت في حبه منذ النظرة الأولى، ومازلت افعل. ولكن يقيني قد ترسخ بأنني سأفقده، مختارا مضطرا. وسيظل قلبي عليه لأنه لم يهنأ بأمن ولا سلام منذ تفجرت فتنة بغداد التي أفقدتها كل فتنة.
ترى هل عادت الحمامة بغيابي الى المكان الخطأ؟
لا اعرف ولا احملها المسؤولية اذا كررت الخطأ. فمن الواضح ان أخطاء الحمام تأتي نتيجة حماقاتنا. بشر يخلي الدار وحمامة تنتهز فرصة غيابه فتبني وبشر يعود ليسكن فيهدم العش.
انه القلق يا حمام. لو لم يكن اصحابك البشر على هذه الدرجة من القلق لما واجهت اعشاشك هذا المصير. ان استقرار البشر يشيع الهدوء والسلام والثقة في البيئة.أما اضطرابهم فأنه يملأ الدنيا بالفوضى. فلا العش آمن ولا البيت عامر. وكلانا يخسر بذلك شيئا لا يقدر بثمن، وقيمة لا تعلو عليها قيمة، وهي الثقة.
يتساءل كاتب فرنسي:quot; هل كان العصفور يبني عشه لو لم يكن يملك غريزة الثقة بالعالم؟quot;. الجواب لا بالطبع، كما انه لن يبنيه في جوف ايركوندشن. ذلك انه عصفور فرنسي. وفي لحظة اختياري بيت بغداد كنت أملك غريزة ذلك العصفور. وهذا خطأ quot; جذريquot;. فقد تربينا على ذبح العصفور، ناهيك بهدم عشه، في طفولتنا من باب التسلية. وهذا المسلك ما كان لولا ان قلة اعتبار هذا الطائر تعود الى طفولة الأمة، فمنها تحدر الينا الهزء بعقول العصافير.
ولذلك فقد كان علي التحسب والإحتراز. من اين جاءتني غريزة الثقة؟ لا أعرف من أين تورطت بها. فعلى الدوام كانت الثقة بالعالم موجودة عندي وجودا اصيلا. وكان ذلك ومايزال مبعث مسرات وخيبات هائلة لي. والحق ان العالم الذي يخلو من الثقة لا يستحق ان يعاش. ولكن الى ان يقوم مثل هذا العالم يبدو ان سلامة الكائن مرهونة بدفنه غريزة الثقة. وكان الخليفة معاوية يعتز بأن حكمته بلغت الغاية لأنه لم يثق بأحد.
لعل الساسة يقدرون عاليا هذه الحكمة. ولست من طينتهم. ان عادة الثقة ورطة لا أندم عليها. او قل لا استطيع الندم عليها. ذلك انها ليست ورطة بيت ولا عش فحسب، وانما هي ورطة أكبر، ورطة مأساوية، ورطة الوطن. وما هو هذا الوطن؟ انه ذلك المكان الذي اذا خربت حياتك فيه فهي خراب اينما حللت.
وحياتك هي quot; البيت القديمquot;. مفتاح قلبك يا رجل! كل بيت تسكنه ستأمل ان تحل فيه اسباب quot; البيت القديمquot;، وهي لحظات أول الخلق، وكل مخلوق انما يولد فاتحا للعالم. ثم يقضي العمر في ملاحقة تلك الأسباب واللحظات الى ان يأخذ الباري أمانته. أما القلق اذا طغى، وأما الإضطراب اذا تجبر، فلا مأوى لك في بيت، ولا استقرار لك في وطن. لا البيت ملكك ولا الوطن بيتك.
وثمة حالات فردية لخراب البيوت، وأمرها هين. وأخرى عامة، وهذه كارثة. كارثة وطنية.
ان البيت في كل بلد هو على نحو او آخر قصة ذلك البلد. تقدمه او تأخره، سعادته أو بؤسه، زيادة أو قلة ذوقه، حريته أو عبوديته، آماله ومخاوفه. ان مآسي البيوت في وطن مأزوم تتفاوت شدة وخفة. ولكن أثقل ما يمكن ان تشترك فيه هو فقدان الثقة. وان فقدان الثقة هو الاساس الذي تنهض عليه خرابة فقدان الأمل. وكلاهما يأتيان من منبع فقدان الاحساس. وهذه الفقدانات الثلاثة هي ذرية أمهات جهنم: الطغيان والتعصب والحروب.
ولا زالت أرحام أمهات جهنم خصبة في البلاد. تعالوا نرى شيئا من اصدائها في محادثة جرت على الفيسبوك مؤخرا بين أصدقاء. ان قيمة هذه المحادثة ليست في شحنتها التعبيرية القوية، ولا في أمانة ترجمتها للواقع فحسب، وانما ايضا في طرافتها، وفي أشخاصها وجلهم ادباء وفنانون مرموقون. بدأت هذه المحادثة بquot; نفثةquot; اخرجها أديب من صدره، ثم توالت عليها التعليقات. فلنتابعها:
أحمد سعداوي: لم نخرج من quot; النظام السابقquot; حتى الآن. والذين يحاولون جعلquot; صدامquot; من الماضي، هم من الماضي ايضا.
ليس لدينا أفق جديد..ليس لدينا أي أفق.
أحمد مكطوف الوادي: تغير النظام الشمولي بآخر quot;ديمقراطيquot; اسما دون ان يكون هناك اي تغيير حقيقي في التفكير والسلوك والمعرفة والادارة. ما معنى ان نكتب على محل لبيع الفحم quot;مجوهرات لازورديquot;؟ هل يكفي هذا لتحويل الفحم الى ذهب وكريستال؟
مقداد عبد الرضا: اتفق ببساطة. كنت اسكن اليوم في فندق من الدرجة الاولى..طلبوا منا جميعا مغادرة الفندق لأن شخصا مهما سوف يحضر ويسكن الفندق لعدة ايام.. ولن يسمح بالدخول او الخروج..غادرنا كقطيع دون اشارة او احتجاج..لأن الماضي يسكننا..
محمد غازي الأخرس: سيعتقلون صباح الساعدي لأنه شتم صدام حسين!
محمد يونس: هل تذكر يا سعداوي مقولة الروائي الألباني قادرية التي كنا نرددها في جريدة الجمهورية:quot; الطاغية يصنع شعبا على شاكلتهquot;.
عبد الخالق كيطان: ليس لدينا اي أفق: مو خوش خبر.
مقداد عبد الرضا: خلوقي عيني..انت لديك أفق؟
عبد الخالق كيطان: أبو اريج عيني آني مليوصة عندي..
علي وجيه: أقدر ادبر لك افق..بس مستعمل!
عفان الابراهيمي: صدام طلعته امريكا من الحكم والجماعة جابتهم امريكا..هذولة منو اللي يشلعهم؟
احمد المهنا ( لسعداوي الذي افتتح المحادثة) : لم أرك يوما على هذه الدرجة من الغضب.
حميد قاسم: هذا الغضب - إن تعاظم - هو من سيفتح الأفق أمام حيرتنا الكبرى..اغضبوا شبيكم!
جاءت هذه المحادثة بعد سلسلة أحداث ملأت أجواء البلاد بالإحتقان والخوف والخيبة، منها جريمة اغتيال مثقف اتهمت الحكومة على نحو واسع بارتكابها، واضطرار قاض نزيه الى الاستقالة من منصب رفيع، وصدور مذكرة اعتقال بحق نائب مستقل بعد توجيهه اتهامات لرئيس الحكومة على خلفيتي اغتيال المثقف واستقالة القاضي، واخيرا قيام قوة أمنية من محافظة شيعية باعتقال مجموعة متهمة بجريمة قتل جماعي من محافظة سنية، بدل اعتقالهم في محافظتهم او في العاصمة، وهو ما اعاد شبح الحرب الأهلية، وذكر الجميع بأن هناك جمرا لم ينطفىء بعد تحت الرماد.
ولعل أكثر تأثيرات هذه السلسلة من الأحداث مدعاة للحزن هو انطلاق موجة جديدة من التفكير في الهجرة. أحد أشخاص هذه المحادثة الحزينة سيودع مخافر الحدود بعد ايام في طريقه الى منفاه السابق في آخر الأرض. انه بالأمس القريب فقط اطلق فكرة مبادرة مدنية. كان يحلم بإضاءة شمعة. الآن سيخلي منزله، ويلقي تحية الوداع على quot; البيت القديمquot;.
قال لي صديق:كثيرون يفكرون مثله بالهجرة. وأضاف آخر: اصبحنا بين فكي الصمت والهجرة. لماذا يبدو كل شيء هنا وكأنه عش حمامة في المكان الخطأ؟ لماذا لا يسلم كل شيء من الهدم؟ لماذا تذعر العصافير ويضيع الحمام؟ لماذا هذا البلد ملعون؟ لماذا نكرهه ولكن حين نستودع الله فيه نموت؟ وما الذي يعيقنا عن تطوير محبة له كفيلة بخلاصه؟
أعرف، ويا لها من معرفة بائسة،ان محبة الوطن لا تبدأ بالطيران الا بعد أن تنطوي الراية، ويصمت التهليل، ويخف الهياج، ويأخذ سيف التاريخ المسلول مكانه في المتحف.
لا تزعل مني يا بيتي القديم اذا كنت أعزي النفس باستعارة عيون بومة منيرفا. فهذا عزاء لا يكفيني أنا الكهل، فما بالك بالصبايا والفتيان؟ بالشابات والشبان؟ بالرجال والنساء وهم في صراع موحش مع السياسة والطبيعة؟ بالآباء والأمهات الحزانى؟ بالناس الممرودين في طاحون آيات القباحة وأمراء الطوائف؟
ان عقلي وحده فوق التل. أما قلبي فما زالت أشواق الأغاني تعصف به على وقع كلمات يسينين:
quot;منآي، يا منآي
منآي الغريب
لم أجىء اليك بمحض ارادتي،
ولا قادني اليك جوادي الكريم
بل قادني اليك، أنا الفتى الطيب،
الإقدام، وتوثب الصبا،
والسكر في الحاناتquot;
ولست يائسا ولا حادبا بل لائب متألم لا يكل ولا يمل. هل تهدأ الحمامة اذا فقدت عشها؟ وهل يعرف السلام من نزع السحر عن بيته القديم؟