استقالة القاضي رحيم العكيلي من رئاسة هيئة النزاهة دلالة أخرى على الهاوية التي يتدحرج فيها العراق. وكان الرجل محاولة مستحيلة. ان ازهار اللوتس محكومة بالوحول القذرة. تنبت فيها وتنمو وتزهر وتعطي ولكنها لا تغير محيطها. لا تستطيع. تحاول. المحاولة مغامرة ذات شرف. حكاية تستحق الرواية للأجيال، لأنها تعطي أملا، مثل قصة كل مقاتل ضد زمانه.
تمتعت شخصية العكيلي بالجمع بين الكفاءة والفضيلة، وهذه معادلة جد نادرة بين رجال ونساء المشهد العراقي بعد عام 2003 . وكان بين قلة ممن ظهروا في هذا المشهد وكانوا من quot;عراق الداخلquot;، عراق صدام الذي لم يستطع استكمال جريمةquot; الإبادة الأخلاقيةquot; لشعب بأسره. ولذلك ظلquot;انتصارquot; صدام على الشعب ناقصا. القاضي رحيم العكيلي وأمثاله من quot;شخصيات الداخلquot; الفاضلة، الشجاعة، والحرة اشبه بأضواء على محاولة مستحيلة أخرى، ولكن من جانب الشر، لجعل البلاد خالية مقلوبة.
ولعل هذا ما اراده للبلاد، ويا للمفارقة، اعداء لصدام من ابناء جلدته، قضى استبداده عليهم بالعيش في المنفى. اذ يبدو ، والله أعلم، أن كثيرين من quot;رجال المنفىquot; الذين عادوا الى العراق بعد عام 2003 ، اعتقدوا ان البلد خال من العقول ، وتوهموا انه صحراء من الفضيلة والموهبة. ولربما كان للباحث منهم عن المجد والرزق والحكم مصلحة في اعتقاد او توهم فراغ الروح والسوق والسلطة.
وعلى اي حال فقد تحقق لهؤلاء العائدين ما أرادوا، وورثوا صدام، وتابعوا طريقه حتى قطعوا فيها أشواطا أبعد منه في مشروعquot; الإبادة الأخلاقيةquot;. فقد اصطنعوا بنية سياسية من طبيعة منتجة للفساد، لأنها عاجزة عن ارساء الأمن، وهو ما يؤدي الى تآكل دائم في حكم القانون، والفساد نتيجة حتمية لتراجع سلطة القانون. وهكذا أصبح العراق اليوم رابع أفسد دولة في العالم.
ومن دون ارادة سياسية، وسلطة قانون، ورقابة شعبية، لا يمكن الحد من الفساد. وهذه العوامل الثلاثة لن تقوم لها قائمة في ظل quot; العملية السياسيةquot; الحاكمة. القاضي رحيم العكيلي كان مدركا لهذه المعضلة، وعارفا ممتازا لحجم الفساد ، وايضا لحدود دور quot; هيئة النزاهةquot; في مكافحته. ولقد كشف، في رسالة استقالته الى البرلمان، جزءا يسيرا من قمة جبل الجليد، حين قال بأن الارادة السياسيةquot; quot; اضحت متذمرة بقوة من الرقابة..وتسعى جاهدة لمقاومة ادوات وآليات المساءلة والشفافية، فكأنها مشغولة بمحاربة الرقابيين أكثر من انشغالها بمكافحة الفاسدينquot;.
وكان من بين أعمال هذه quot;الارادة السياسيةquot; استحصال حكم من المحكمة الاتحادية العليا يقضي بإخضاع الهيئات المستقلة، وضمنها هيئة النزاهة، للسلطة التنفيذية. وهو حكم عارضه العكيلي شفاها وتحريرا، فالمفروض ان لا تخضع هذه الهيئات، المسماة مستقلة، لأي سلطة، عدا السلطة الرقابية للبرلمان.
والخلاصة هي ان الفساد المقارب للكمال، الذي لم يستطع نظام شمولي تحقيقه في سنوات طويلة، حققتهquot; ديمقراطية فالتةquot; في سنوات قليلة. حتى ليبدو اليوم ان كل صاحب موهبة او كفاءة سنحت له فرصة سرقة اغتنمها، ولم يقصر.
ان صور العراق اليوم تذكرني بما خطه قلم كاتب ألماني في يوم ما من القرن الثامن عشر. قال:quot; اذا وجد الانسان في جزيرة نائية ذات مرة شعبا بيوته كلها مدججة بالأسلحة المشحونة المتأهبة وعليها بالليل حراس لا يكلون ولا يملون- فهل يخطر بباله شيء آخر سوى ان الجزيرة كلها يسكنها قطاع الطرق؟quot;.
والحال في العراق اسوأ من حال تلك الجزيرة، لأن الحراس دائبون ليلا ونهارا، سيطرات او نقاط تفتيش في كل مكان، احياء مسورة بالكونكريت، طرق مقطعة، وفوق كل هذه العسكرة هناك ميليشيات بعضها يعمل في شبه العلن وبعضها الآخر في الخفاء.
ان الحكومة ذاتها تشكلت نتيجة عملية سرقة علنية. فقد خطف التحالف الشيعي، الذي انبثق بعد ظهور نتائج انتخابات 2010 ، الفوز من quot; القائمة العراقيةquot; ذات الأغلبية السنية، بناء على فتوى انتزعت تحت الضغط من المحكمة الاتحادية العليا . وبدل ان تسلم quot; العراقيةquot; أمرها الى الله، وتأخذ دور المعارضة البرلمانية، فقد اختارت التغانم على السلطة والثروة مع quot; التحالف الوطنيquot;.
كان القاضي رحيم العكيلي خبيرا لا يضاهى في فساد تغول بصورة دولة. ولكنه كان يراهن على استكمال بناء المؤسسة، على رفدها بالكوادر والطاقات، على تنمية خبراتها، على تحديثها، وعلى توفر شروط سياسية وقانونية واجتماعية تكون ملائمة ذات يوم لنهوض الهيئة بدورها. كان يبني للمستقبل. والمدهش انه على الرغم من هذا الوضع الزفت فقد ظهر الى الوجود نوع من الخشية لدى دوائر الدولة من quot;هيئة النزاهةquot;.
وهي خشية ستجد طريقها الى النمو، والى التوسع، في يوم، في شهر، في دهر. فلا مناص من نضال الشعوب من أجل حكام يتمتعون بفضيلة أكثر، وموهبة في الفساد أقل. تماما مثلما لا مناص من استمرار وجود أمثال القاضي رحيم العكيلي على الدوام، فلو خليت قلبت.