اذن فقد قتلوك يا صاحبي!
قتلوك يا هادي المهدي، عشية جمعة 9 -9 التي كنت تحشد لها. آخ كم تؤلمني! في المرة الأولى كنت شاهد عيان على محاولة قوات المالكي قتلك معنويا، وقتلنا معك بنفس الطريقة. وفي هذه المرة الثانية بلغني نبأ اغتيالك وأنا في لندن. وهم بذلك يحاولون اقتلاع بذور quot; الربيع العربيquot; فينا قبل أن تنمو .
في المرة الأولى لمحت مظهرا مؤلما من مظاهر اعادة انتاج quot; جمهورية الخوفquot;. تلك التي كانت قد كلفت البلاد همجية تغلغلت في الأعماق، فوق ما كلفت من خسائر لا تعد ولا تحصى في الناس والمال والماضي والحاضر والمستقبل.
المرة الأولى: بعد انفضاض تظاهرة 25 شباط، وفي باحة مطعم مطلة على شارع الكرادة داخل، وسط بغداد، جلس هادي مع ثلاثة أدباء وصحفيين شبان من صحبه عصرا لتناول الطعام. وفجأة اصطفت أربع همرات للجيش، نزل منها نحو 10 عساكر، وتوجهوا مسرعين الى الأربعة، وانهالوا عليهم ضربا أمام جمهور مذهول في المطعم وعلى جانبي الشارعين.
جاءت الصفعة الاولى على رقبة هادي من الخلف. لن أنساها ما حييت. وكنت مثل هادي قادما للتو من تلك التظاهرة، وروحي جذلى بنسيم الحرية، الذي لا احلى ولا أخف منه، ذلك انه في مثل هذا المقام يكون كمن يشد نفسه لحظة ويهب وسط سجون الإستبداد. ولكن سرعان ما صدت تلك الهجمة ذلك النسيم، وبلمح البصر اختفى، كما اختطف الشبان الأربعة بنفس السرعة، ونقلوا بالهمرات ليتعرضوا الى ألوان أخرى من التعذيب في الأقبية السرية. ثم افرج عنهم بعد ليلة ويوم أروهما فيهما نجوم الظهر.
ولكن هادي لم ينكسر. بل لم تفارقه روح الدعابة: يروي زميله في المحنة الشاعر حسام السراي قائلا انهquot; عندما أطلق سراحنا أنا وعلي السومري وهادي المهدي وعلي عبد السادة، بعد اعتقالنا لمشاركتنا في تظاهرات 25 شباط الماضي، وملابسنا ممزقة وحالنا حال، قال هادي:quot;يلا شباب لا تضوجون، هذا كله ينضاف للسيفي( السيرة الذاتية)quot;،وأعقبها بضحكة طويلةquot;.
لم يصمت هادي. لم يهدأ. بل تصاعدت نبرات احتجاجه. فلم تنفع معه محاولات التدجين أو اعادة انتاج جمهورية الخوف، وذلك خلافا لما حدث مع محتجين كثر آخرين كان الرعب فوق طاقتهم.
تقدم المهدي بشكوى الى القضاء على رئيس مجلس الوزراء بوصفه quot; القائد العام للقوات المسلحةquot;، جراء تعرضه للاختطاف والاعتقال من دون مذكرة قضائية ومن دون جرم، وتعرضه للإهانة والضرب، واصابته بكدمة خطيرة في رأسه وورم في ساقه اليسرى. وقال في بيان انه يلفت quot;نظر الرأي العام العراقي انني وبعد تقديمي ونشري لهذه الشكوى وفي حال تعرضي او أسرتي لأي خطر فأنني أضع مسؤولية ذلك على عاتق نفس الجهة التي اشتكيها واتظلم منهاquot;.
كان هادي من أبرز المنظمين لتظاهرة 25 شباط، وأكثر ابناء الوسط الثقافي والاعلامي حماسة لها، وظل كذلك مع تقليد الاحتجاج الذي استمر في ساحة التحرير كل جمعة. وكان الأعلى صوتا في الإحتجاج، سواء في التظاهر، او في برنامجه اليومي في احدى الإذاعات المحلية، أو في الكتابات، أو في الكلام.
كان حاميا، محتدما، وشجاعا حتى التهور. الرجل مسرحي. وقد تماثلت الحياة لديه مع المسرح. كان أداؤه في الإثنتين، الخشبة والبسيطة، حرا من كل خوف. الطبيعة حبته بانطلاق لا يعرف الحذر ولا الاحتراز. وهذه الطبيعة هي أكره شيء على الدكتاتورية، كما هي أكثر شيء استفزازا لعبيد الخوف.
والإثنان قتلاه: مشروع المالكي، مشروع الدكتاتورية الناشئة، وجمهور الخوف الآخذ بالإتساع.
ومثلما لم يعتذر المالكي عن الاساءة الى هادي والى أصحابه في حادثة التنكيل العلني والخطف والاعتقال التعسفي والتعذيب، وهي الأعمال المشينة التي ارتكبتها quot; قواته المسلحةquot;، فإنه لن يفعل شيئا مع تصعيد تنكيله الى مستوى القتل، سوى إحالة quot; الحادثquot; الى ملف لدى قضاء لم يعرف عنه فك لغز حادثة واحدة من حوادث الاغتيال، وهي بالمئات.
انها قصة موت معلن أخرى.
غير ان القتيل هذه المرة هو أول شهيد، من الوسط الفني والصحفي، في تاريخ الاحتجاج العراقي الذي بدأ في ساحة التحرير يوم 25 شباط 2011 . ولعل هذا هو آخر وأعظم عطاء قدمه هادي الى الاحتجاج العراقي الذي كان يؤلب على اذكائه حتى اللحظة الأخيرة من حياته.
فقبل ساعات من هذه اللحظة، كان هادي قد كتب في موقعه على الفيسبوك، وفي اخر كلماته المحرضة على التظاهر، متمنيا ليوم 9 ndash; 9 أن يكونquot; عرسا حقيقيا للديمقراطيةquot;. وها هو quot; العرسquot; يتخضب بدمائه، وquot; جمعة البقاءquot; يتغير اسمها الى quot; جمعة هادي المهديquot;.
وتحت النصب الخالد، في ساحة الإحتجاج، سيقام اليوم حفل زفافك شهيدا، وسيلقي عليك الأحرار في العراق، وفي كل مكان، التحية التي يستحقها أمثالك، ممن جعلوا حتوفهم جسرا الى الحرية: هذه الأمانة التي لن يمل رجال ولا نساء هذا الكوكب عن حملها وعن افتدائها الى أن يرثوا الأرض.
وداعا يا هادي! تعيش يا هادي!