ذكريات منسية

أقلعت الطائرة الضخمة من مطار بغداد بعد أن انهكنا التعب في الوقوف في طوابير فحص محتويات حقائبنا خشية أن نهرب ذهب العراق في ملابسنا وكعوب أحذيتنا، ثم حطت بهبطة عنيفة في مطار اللد في الدولة التي كانت الأذاعات العربية تدعوها بالدولة المزعومة، حطت في أحرج الأوقات في تاريخ الشعب اليهودي، بعد حرب دامية والدولة على وشك الإفلاس وقد استقبلت فجأة هذه الجموع الهائلة من القادمين الجدد بعد محرقة الهولوكوست في اوروبا. كان عليها الإختيار بين انتهاز فرصة السماح لنا بالخروج أو التريث، ومن يستطيع ضمان الخروج إلى إسرائيل فيما بعد، وكانت اسرائيل بحاجة ماسة إلى ايدٍ عاملة رخيصة ودعم لأمنها. ولكن الشيء الذي حيرنا وأغضبنا هو هذه البرودة التي صدمنا به الموظفون في إسرائيل والذين لم يجيبوا على ترحيبنا: quot;شالوم حبيرquot;، بل رشوا علينا الـ quot;دي دي تيquot;، بوجوه صارمة، نحن الذين تعودنا على الترحيب بالضيوف واكرامهم. كانت خشيتهم أن ننقل quot;مكروبات العراقquot; إلى الدولة التي أرادوا أن تبقى أوروبية نظيفة، ثم شحنونـا بلوريات البهائم إلى معسكر الحجر الصحي في quot;شاعر هعلياquot; (بوابة الهجرة) التي حرفها العراقيون إلى رنين عربي له معنى وهو quot;شارع إيلياquot;. تكلموا بالعبرية دون الاكتراث فيما إذا كنا نفهم أوامرهم أم لا، أوقفونا في طوابير التطعيم الصحي وطوابير الطعام للحصول على نصف بيضة مسلوقة، وشريحة من الخبز الأسود وخمس حبات زيتون وبرتقالة وقطعة من الفسيخ (السمك المالح) كادت تقلب معدتنا المدللة برائحتها الكريهة، بعد أن تعودت على السمك quot;المسكوفquot; المتبّل بـquot;الكاريquot;.
وفي الصباح جلست على طاولة الطعام مع مصعوق من توالي الأحداث الغريبة لإقلمتنا، تلخبطت عليه الأمور، حائر من مقلوعي الجذور، رأبته يتأمل نصف البيضة التي أمامه وهو يردد بينه وبين نفسه ويختلس اليّ نظرات متعجبة، quot;والله عجيب، القشغ (قشر البيضة) قشغ، والبياض بياض، هسّه هذا الصفاغ اشلون عبونوا ابطن البيضي؟quot;، قلت له ما وجه العجب؟ هذه بيضة طبيعية مسلوقة، مقسمة بالسكين إلى نصفين لقلة البيض في هذا البلد الفقيرquot;. نظر اليّ نظرته الى غشيم لا يعلم عن معجزات إسرائيل شيئا: quot;لَكَنْ متعغفْ (ألا تعرف)؟ هذا بيض اصطناعي، هوني كل شين اصطناعي حتي الحليب من طوز (مسحوق) ما من هاشا (بقرة)!quot;. كتمت ابتسامة مشفقة، لعل اقتلاع جذوره اطار صوابه. قلت له، quot;نعم هناك مسحوق للبيض، ولكن أمامنا بيضة قسموها الى نصفين لعدم توفر العدد الكافي للمهاجرينquot;، لم يصدق ما قلته، وقال لي quot;متغوح! متمشي بقا، قتفهمني ابيسرائيل؟quot;. وفي البانكولو (الصريف) الكبير الذي تركه جنود الانتداب البريطاني الذين عيل صبرهم بين العرب الثائرين الرافضين واليهود المطالبين بحصتهم من وعد بلفور، صُفّتْ عشرات الأسرّة الحديدية بحشاياها الملوءة بالأعشاب اليابسة التي يعيث فيه البق اللاسع الذي عرفه الآباء في معسكرات الجيش العثماني في الحرب العالمية الأولى والمسمى بـquot;التـختا كلسيquot; والذي قضّ مضاجعنا بلسعاته الشديدة المحرقة، إذ لم نكن نعهده في العراق حيث البعوض الذي تعودنا عليه، ارحم من هذه الحشرة اللعينة التي تلاحقنا الليل بطوله تشاركنا فراشنا بلسعاتها القارصة، تقض مضاجعنا مع همومنا الجديدة. حشدوا عشرات العوائل معا، كل عائلة احتلت مجموعة من الأسرّة لتكون قريبة الواحدة الى الأخرى، وأنا الوحيد على فراش منفرد اتطلع بعينين شاردتين، كأني أشاهد يوم القيامة والحشر، كل شيء مكشوف هنا، ولا خلوة للرجال مع نسائهم مما جعلهم اكثر عصبية ونفاذ صبر، وهذا الفتى الكردستاني بسنه الذهبية، قد عيل صبره، يمد يده العطشى النهمة الى فخذ زوجته وهي ترضع طفلهما البكر، فتنهره بضربة دلال وتقول له، quot;عيب، ما تستحى قدام العالم تعمل هيكي مكلّم مقيقشعوك؟quot; وهذا العريس الجديد، جالس مع عروسه وما زالت كفاها مخضوبتين بالحناء وأظافرها مطلية باللون الأحمر القاني وبقايا أحمر الشفاه الباهتة على شفتيها، ويبدو أنهم رحلوا بعد حفلة الزفاف مباشرة، عيل صبره من الكبت وهو يكتم غيظه شاعرا بالغبن وخيبة الأمل والحيرة مرسومة بوضوح على وجهه، ثم يلتفت الى حميه بحمية وغضب ممسكا بيد عروسه يستمد منها الجرأة للاحتجاج على الجوع والتعب والحرمان وقلة النوم بين جموع غريبة وعيون متلصصة، وقرر المطالبة بحقه، طالبا الوفاء بشروط المهر والجهاز التي وقع عليها والدها، نتر صائحا بوالد العروس بغضب وقد طارت من رأسه الأصول المرعية في احترام الكبار:
-quot;أشو وين البيت ابو اغبع قبب (أربع غرف) اللي قلتلي غاح تشتغيليانا ويا الجهاز؟quot;
-ابني! الخاطر الله، هسا هذا موقتا، متحطينا نطلع من هايي الوحلة قبل، واتالي نتراجع وكل شين يقعد بمكانو!quot;.
-لا ! قشمرتمني وجبتني الهل جهنم، لا ليل ليل ولا انهاغ انهاغ وقفاغ وماي حاغ، وموت من الجوع.
-ليش اكذبتو عليك، همي كذبوا علينا، مقتعاين اشلون وقعه سودا وقعنا كلنا، حطينا نطلع من شارع إليّا (شاعر هعليا ndash; بوابة الهجرة) قبل، خاطر ألله فك عني! ولا تلزمتني من خصياني هسه، وتقلي يالله وين البيت. مقتعاين بأشلون وقعة سودا ومصبوغا وقعنا !.
-لا، أنا ما أغيد، رجعني البيت أبويي بالعراق أحسن لي، كنا عايشين مثل الملوك!
-أبني ، قلتولك اصطبغ وشويا لاخ تفرج ونشتغيلك بيت!
-لا، ما أغيد، وِهْـدِنْـتِـمْـني (غررتم بي) وجبتمني ابهل المكانات، الكاولية هم ميقدغون ايعيشون بيها، يلاّ، رجعني للعراق!
-ولك بس بقا، دوختو الغاسي وأنا الليل كلو منمتو، قتسكت، لو اجي أخلص خبزك هسه؟
-أغيد أرجع للعراق، يالله!
ضاق صدر والد العروس وعيل صبره من إلحاح صهره الجديد على شراء بيت أو العودة الى عز العراق، وقام صائحا بغضب:
-ولك ابن الكلب، مشفت غيغ وقت تلزمني من خصياني واتقلي اغيد وأغيد! والله لاوم أأدّبك اليوم.
أمسك بناصية العريس الطرير ووضع رأسه بين ركبتيه وانهال عليه ضربا، quot;هَيْ پاط، هَيْ پـَيط quot;ْ. حاول العريس ان يتخلص من القبضة الحديدية وهو يعوي ويستغيث، وصارت العروس تلطم وجهها وتصرخ بوالدها، quot;بس بقا لتميتو!quot;، وصاحت أمها، quot;سيّبوا بقا، بس، ليش الخايب اشقال؟quot;. وانقلب المشهد الى هوسة وصخب عراقي عنيف من صياح وعويل ودموع وغضب وضرب وشتائم، الى أن تمكن العريس من التخلص من بين رجلي العلج الغاضب، قفز العريس الخايب على الفراش ومن هناك الى الخارج عن طريق الشباك المفتوح وغاب عن الأنظار، وصاحت الحماة، quot;غوحوا لحقونوا ولزمونو! لا يسوي امغ ابنفسوquot; (الحقوه وامسكوه، قد يقدم على الانتحار!quot;، والعروس تبكي وتولول، quot;ابدالك بابا، ليش اتبهدلو الزوجي العريس قدام العالم، الله يقبلا عليك؟quot; وولولت الوالدة، quot;أسود على بن غريون وعلى نوري السعيد وعلى الطيارة السودا اللي جابتني، الله يهجملم بيتم!quot;
خرجت لأرى أين هرب العريس المسكين المغدور المطالب بحقه الخرافي في هذه النكبة التي حلت بيهود العراق، فإذا بي اشاهد معركة حامية بين شابين مهجّـرين أسمرين وشرطي اشقر أحمر الوجه وقد ضرب احد الشابين المطالبين بتحسين الأوضاع في المعسكر الكرنتينة ونقله الى معسكر قرب تل أبيب رافضا قبول معسكر للقادمين الجدد على الحدود في النقب. رفسه الشرطي رفسة ظالمة بين فخذيه جعله يتمرغ على الأرض وهو يئن ممسكا بيديه الموضع الحساس من جسمه وهو يتلوى على الأرض من الألم، صارخا: quot;آخ يابا، آخ يابا!، ولك يا ابن الكلب، حتي بالعراق هم ما سووا هيكذ بينا، انشا الله تغوح فدوه حتى على بسطال الشرطي العراقي!quot;، وواصل الصراخ وهو يسب بن غريون ونوري السعيد والتنوعة!
وفي اليوم التالي، ونحن نفتش عن أقرباء جاءوا ينصحوننا إلى اين نطالب بالإنتقال من هنا، فإذا بي أرى أخي ريموند يفتش عني، quot;وي ابدالك!quot;، ارتمينا دون وعي في الأحضان وغمرتُ الوجه الحبيب بالقبل، quot;أش قتسوي هون؟quot; ولأول مرة شعرت بيد أخي الاصغر مني والذي كان يعتمد علي في كل مشاكله، تمتد نحوي كيد من خلال غمرات النكبة العراقية لتنتشلني من حيرتي، وليقول لي، quot;أطلب التصدير إلى معبرة سكـّيّة (أ)، قرب تل أبيب، فعندي خيمة ولا استطيع البقاء فيها لأنني أعزب، إلا إذا انضممتَ اليّ quot;.
خرجت في اليوم التالي للتنزه في الحقول المحيطة بالمعسكر مع فتى تعرفت عليه في الطائرة، قال إن اسمه شاؤول منشي، (الذي أصبح فيما بعد من كبار المعلقين السياسيين في إسرائيل)، وجاء صديقه وانضم إلينا، تجولنا في حقل أشجار الزيتون على منحدرات الكرمل نتحدث عن عذابنا في الكرنتينة وأمانينا في المستقبل، مر الوقت سراعا ثم توقفنا ونحن حائرون، نريد التخلص من احتقان المثانة، قال الفتى العراقي الجديد، quot;لا نستطيع التبول على أرض إسرائيل، انها ارض مقدسة!quot;، أكّد شاؤول على قوله، quot;نعم، أنت صادق فيما تقولquot;، قال الآخر، quot;وما الحلّ والمعسكر بعيد؟quot;، قلت دون وعي مني: quot;نطيّر الشرب على جذع شجرة الزيتون، نسقيه حتى لا يصل الى التراب المقدس!quot; قلت ذلك بالبديهية فـquot;العلم في الصغر كالنقش في الحجر!quot;. استبشر الصديقان بالحل المعقول، ووقفنا ثلاثتنا، بعد عذاب التروي، نستمع الى أحلى سنفونية خرير تشنف أسماعنا منذ أول جالغي بغداد سمعناه في صغرنا في العراق حيث كان الجميع في حَلّ من أن يتبوّل في كل مكان، في الدروب وعلى الحيطان وحتى في أثناء سباحتنا في مياه دجلة العذبة الطاهرة، دون تأنيب ضمير أو حرج.
وفي اليوم التالي، جاءت جوليت تعرض عليّ التنزه خارج المعسكر، جلسنا صامتين تحت شجرة زيتون وارفة، فإذا بها تأخذ يدي وتضعها على ثديها، شعرت بقشعريرة لذيذة تسري في دمي، قدمت فاها، وغبنا في قبل محمومة، تأوهت وقالت وهي في نشوة طاغية، quot;بس! ما قدقدغ (لا أستطيع الاحتمال)، كل دقيقي قتتخضو الدمي!quot;، عدنا صامتين الى المعسكر، بعد ايام جاءت سيارة حمل ونقلتها مع عائلتها الى خيام اللاجئين قرب تل أبيب، قالت لي quot;صدّرونا الى معبرة خيرية، تعال زرناquot;، ساعدتها على الصعود الى السيارة، وناوتها نظاراتي الشمسية لكي لا تعيقني في مساعدتها، همست بنشوة حالمة، quot;قـَتْـنِـيشِـنّي؟quot; (هل هذه هدية تمهيدا للخطوبة)، صدمني السؤال، قلت بعفوية، quot;لا! ناولتها لك لأستطيع مساعدتك على الصعود فقط!quot;، بدت على وجهها علامات خيبة أمل شديدة وسهمت نظراتها. وبعد سنين، التقينا في نزهة قام بها عراقيون لتبادل الذكريات. التقيت بها وجها لوجه وتبادنا القبل أمام الجميع. قالت معاتبة، quot;لماذا لم تخطبني؟quot; قلت، quot;كنت بدون عمل ووبدون شهادة جامعية تمكنني من العيش بكرامة، كيف اتزوج بمثل هذا الوضع الأغبر؟quot;، قالت، quot;ولِمَ لا؟ لقد تزوج الجميع بهذه الصورةquot;. ثم اردفت: quot;أتعلم؟ كلما تظهر على شاشة التلفزيون، أنادي أبنائي وأقول لهم، quot;هذا كان لازم يكون ابوكم، أغماد على أبوكم، أشقيسوي بييquot;. هالني ما سمعت واقشعر جسدي باشمئزاز، كيف تربي أطفالها على احتقار والدهم؟ ولكن الحقيقة المرة هي أن الكثير من العراقيات آنذاك كنّ يرين في الزوج وعائلته العدو الأكبر لهن طيلة حياتهن.
وفي المعسكر نادوا على اسماء من سيصدرون الى معبرة quot;سَـكّـِيّةquot; الرملية المحاطة ببيارات البرتقال الذهبي قرب تل أبيب. إذا، فالمعركة التي خاضها العراقيان المهجّران مع الشرطي الأشقر كانت ناجحة، فقد نزلت سلطات الوكالة اليهودية عند رغبة يهود العراق في السكن قرب تل أبيب ورمات جان. أقَـلّـتنا سيارات نقل البهائم لتوزعنا على معسكرات الخيام الأخرى لنبدأ حياتنا الجديدة جائعين في الأرض quot;التي تدر لبنا وعسلاquot; وتركونا quot;كلمن وحظه ونصيبهquot; وكلٌ ومقدرته على الصمود أمام هذه النكبة في هذا العالم الجديد الغريب الذي انقلبت فيه الأمور والعادات والتقاليد والقيم الأخلاقية واللغة رأسا على عقب. فقد أصبحت تقاليدنا تعد من القيم المتخلفة quot; ومن أيام العسمليquot; (العثمانلي)، وصار الأبناء من بنين وبنات، ويا للعار، يعملون ويعيلون الآباء الذين انزووا في أركان خيامهم المظلمة خشية نور الشمس التي ستظهر لهم انهيار عالمهم وضياع أموالهم المجمدة التي جمعوها بعرق جبينهم وجبين آبائهم وأجدادهم، ويتحرجون من طلب نقود من أبنائهم لشراء السجائر ليحرقوا بها غيظهم وكمدهم. مات من لم يستطع احتمال الصدمة، أما الباقون فقد ترحموا على أيام زمان، ويقولون: quot;أبدالا الهذيكي الايامquot; (فداء لتلك الأيام الخوالي!)، وصاروا يشتمون نوري السعيد وبن غريون والطائرة التي أتت بهم في أغانيهم التي نظموها:
أويـلك بن غريون هجـجتْ كُـلّ الـكـون
وساعـة السـودا على الطيارة ال جابتـنا!

مبشرة أورشليم، 19 \ 8 \ 2011