يبدو أن ثورات الربيع العربي لم تقلب الطاولة فقط على كراسي زعماء تونس ومصر وليبيا واليمن، وعلى النهج ذاته تسير سوريا؛ فهناك توابع خطيرة للزلزال العربي بدأت تظهر من القصور والغرف الإستخباراتية المغلقة، فهاهي لجنة التحقيق في تونس بدأت تُعلن للملأ ما كانت تخبئه قصور الرئيس المخلوع والهارب زين العابدين بن علي، من ذهب وفضة وألماس ووثائق الرشاوي والهبات التي طالت الكبير والصغير من أعوان النظام حتى وصلت إلى الكتاب والصحافيين ولكنها لا تزال في المحيط التآمري الداخلي التونسي أي أنها لم تمس سيادة دول قريبة أو بعيدة!
وفي الأيام الماضية إنتشر بشكل واسع وسريع في مواقع التواصل الإجتماعي المختلفة تسجيل خطير خرج من قمقم القذافي، وإذا صحت الرواية وتلك مصيبة عظمى؛ فإن جلسة حميمية تفوح بالغرابة جمعت بين طرفين نقيضين وقع كل منهما في شراك شرور الآخر، فالعقيد الماكر المُتلقي والمنصت للحديث قُتل شر قِتْله بمساهمة ممن كان يتحدث إليهم، كشفهم بعد وفاته بمؤامرته وشره المستطير بالكمين الفضائحي الذي نصبه لهم وخَلّف وراءه تسجيلاً سيبقى في سياق عقدة أوديب التي مثّلت الخزي والعار للأسطورة القصصية الإغريقية.
كررت الاستماع للتسجيل المتداول عبر مواقع التواصل الاجتماعي عدة مرات لعلي أجد ما يبرر عدم صحته، ولا زلت متعلقاً بهذا الأمل، لكن إذا سلمنا بإمكانية تقليد وفبركة الأصوات، فمن ذا الذي يُمكنه نسج الحوار وتأليف الرواية، فما قاله المسؤولان العربيان للراحل القذافي يحمل في طياته اسراراً لمداولات عربية خاصة دارت في أروقة الجامعة العربية أو محادثات ثنائية جرت بين شخصيات عربية مسؤولة، أما النعرة المؤامراتية الكامنة في الجهود المشبوهة إن صدقت فتلك هي الطامة الكبرى وليست بيت القصيد!.
تسجيل الحوار المشبوه يمس الأمن القومي لدولة عربية ومستقبلها وما يحاك في الخفاء ضدها من مؤامرات، كما يخدش كرامة دول عربية أخرى بغض النظر عن إتفاقنا أو اختلافنا مع مواقفها، وما استمعنا إليه ونحن بحاجة إلى كشف حقيقته يعبر عن البؤس كل البؤس لساسة لا يتمتعون بالمصداقية والأمانة وقيم وأخلاقيات المهنة السياسية، وقد آن الأوان ونحن نعايش أيام الربيع العربي أن يُكشف الغطاء عن الذين يحملون ndash; متطوعين أو مُوَجّهين - أجندات لتدمير الأمة وتمزيق أوصالها.
إذا صحت الرواية ndash; مع الأمنيات بألا تكون كذلك ndash; فستكون سبباً رغم علقمها لكشف الغطاء الأسود عن قلوب سوداء مريضة مليئة بعُقد النقص والحقد والكراهية والبغضاء، وعندما يثور التساؤل لمن هي موجهة؟، تأتيك الإجابة الدامية، إنها للشقيق وربما الجار وإبن العم القريب؛ تتسمر الأقدام في موقعها، وينعقد اللسان ويقشعر البدن من هول الحقيقة التي لا زلنا نبحث عنها أمام رعب ما يخبئه المستقبل.
إذا صدقت الرواية ndash; ولا زلت متعلقاً بقشة أمل خوفهم من الله العلي القدير ndash; فإن العرب عن بكرة أبيهم أمام مرحلة عصيبة لفقدان الثقة، وسيختفي للأبد مفعول دفء الإبتسامات، وسحر العناق والقبلات، وستحل بنا ثقافة بني النضير وبني قريضة وبني القينقاع، تلك القبائل اليهودية التي أشاعت البغضاء والرعب والشكوك والخيانة والحسد ونقض العهود في الجزيرة العربية، فقد حارب بنوقينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد معركة بدر الكبرى، وأظهروا البغي والحسد، ثم نقض العهد بنو النضير بعد ذلك بستة أشهر، ونقض بنو قريضة العهد لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم إلى غزوة الخندق، وكانوا أشد اليهود عداوةً للنبي عليه الصلاة والسلام وللإسلام والمسلمين.
إن صحت الرواية، فأعيدوا النظر أيها الحكام العرب فيما بين الدول من عهود ومواثيق واتفاقيات ومجالس، واتحادات منظورة، وجامعة عربية تنضوون تحت مظلتها، ثم اكشفوا لشعوبكم عما يدار من بعضكم ضد حاضر ومستقبل الأمة، وما يحاك من دولة ضد أخرى، واستمعوا جيداً للتسجيل الحواري المزعوم بين القذافي والمسؤولان العربيان، الذي سبق أحداث الربيع العربي، ويشير على الأرجح إلى أنه تم بعد مؤتمر القمة العربي الذي انعقد في دمشق، وسيكون بعد التأكد من صحته كابوساً عربياً من نوع آخر وكرة نار ستتدحرج إلى مياه (...)!!.
لن يستطيع إخماد تأويلات وتفسيرات الحديث المسجل إلا مبادرة الدول المتضررة منه، بالمطالبة بالتحقيق لمعرفة الحقيقة، وليكن تشكيل لجنة تحت مظلة الجامعة العربية من متخصصين في مجال القانون والشؤون الأمنية يتمتعون بسجل حافل من النزاهة والمصداقية والسيرة الحسنة، ومطالبة المجلس الوطني الليبي والحكومة الليبية الإنتقالية بتوفير جميع المعلومات والوثائق المتعلقة با التسجيل المشبوه المُسَرّب - كما يقال - عن طريق الاستخبارات الليبية، أو أن القذافي بنفسه هو من ألقى بكرة النار إنتقاماً، بعد أن شعر أن الثوار على مقربة من الإطاحة برأسه؟!.
مأساة أن يمر التسجيل المؤامراتي مرور الكرام، والبراءة منه يُفترض أن تكون مطلباً لمن وردت أسماؤهم وأصواتهم في تسجيل المحادثة المشؤومة، كما أن التأكد من الوثيقة المتداولة هدف لا بد أن تسعى إليه من طالها وأساء إليها الحديث التآمري.
- آخر تحديث :
التعليقات