لم تظهر مذكرة الإعتقال الصادرة بحقّ نائب رئيس الجمهورية وما أثارته من تداعيات وردود أفعال رسمية، إلاّ جانبا واحدا من طبيعة الأزمة الشاملة التي تمرّ بها البلاد منذ نتائج الإنتخابات التشريعية عام 2010 على وجه الخصوص، والتي ظلت مضاعفاتها السياسية، دون أية معالجة حقيقية، وكان من المحتّم لها، أن تدخل الكتلتين البارزتين، العراقية ودولة القانون، في طور جديد من التصادم والصراع الحادّين، إثر المتغيرات المحلية والإقليمية المتمثلة بإنسحاب القوات الأمريكية من العراق وأحداث الربيع العربي، بالإضافة الى التوجهات السياسية الأمريكية والغربية عموما لدعم ومساندة قوى الإسلام السياسي quot;المعتدلquot; في هذه المرحلة.

وبعيدا عن تأكيد ذلك الإتهام أو نفيه، الذي هو من إختصاص القضاء المستقل بطبيعة الحال، إلاّ أنّ تفاقم الأزمة ووصولها الى ذروتها الراهنة، قد أظهر جوانب أخرى من الصراعات على حقيقتها العارية، بعد أن كانت محلّ شكوك الرأي العام لفترة طويلة، وأتّضح معها، أنّ جلّ إهتمامات هاتين الكتلتين، تكاد تنصبّ عمليا، على جمع الملفات السرّية ومراقبة تحركات الخصوم وتحيّن الفرص للإيقاع بهم بأي ثمن وبأية وسيلة، كتعويض عن غياب سياسة حقيقية لدى الطرفين.

فلا إئتلاف العراقية قد نجح خلال العامين السابقين في الخروج من العباءة الطائفية التي نسجتها قبلها quot;جبهة التوافقquot;، ولا عمل على صياغة برنامج سياسي يقوم على إرساء مبدأ المواطنة بغض النظر عن الإنتماءات الفرعية والولاءات المناطقية، ولا طهّر صفوفه التي تعجّ بكوادر وأنصار النظام الديكتاتوري السابق من خلال إصلاحات داخلية جذرية تتفق مع المبادئ والأسس التي قامت عليها الدولة الجديدة، قدر ما كانت المواقف والسياسات والتصريحات المتكررة لقادة العراقية البارزين تركّز في مناسبات ولقاءات عديدة على مسألة إجتثاث البعث وإطلاق سراح المعتقلين quot;الأبرياءquot; ومواصلة إدّعاء التفويض للمكوّن السنّي، دون تقديم أية مكاسب وإنجازات وخدمات فعلية، عملا بوعودها الإنتخابية التي باتت وراء الظهور.

ولا إئتلاف دولة القانون قد نجح بدوره، في إشاعة مفاهيم الحقّ والعدالة ومساواة الأفراد والجماعات أمام القانون وإطلاق الحرّيات العامّة والحفاظ على إستقلالية القضاء والصحافة والإعلام وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني والسعّي الجدّي لإدارة المرحلة الإنتقالية والتأسيس للتحوّلات الديمقراطية والكفّ عن محاولاتها المستمرّة لمصادرة الدولة وإعتبارها كأداة خاصة لصيانة مصالحها ومراكمة ثرواتها، لا كإطار عمومي قانوني وإنساني يستظلّ به جميع المواطنين.

ولا يختلف الطرفان كثيرا في التوهّم بمصادر القوّة الإنتخابية التي يتبجّحان بها ويعتمدان عليها والتي هي في واقع الأمر، ليست لها منابع محلية حقيقية، وإنّما كانت ثمرة تفاهمات دولية وإقليمية بالدرجة الأولى أتاحت لهما تفويضا خارجيا لا علاقة له بالقوّة الخاصة والنابعة من التعبير عن الإرادة الشعبية الداخلية. كما أنهما لا يختلفان في جملة أخرى من الأمور لعلّ من أهمّها، التمويه المشترك على هوية الدولة الجديدة وإبقاء ملامحها وتوجهاتها الأساسية دون تحديد واضح وبالتالي إستمرارها كغنيمة صالحة للتقاسم، بما أدّى ذلك كلّه، الى جمود وشلل سياسي وركود إجتماعي عام، وضعف في التواصل بين مكوّنات المجتمع، وتعطيل إرساء دعائم الدولة ومؤسساتها الحديثة وإنفتاحها على المشاركة الشعبية الواسعة بحيث بدا معها كلّ ما يمتّ بصلة للمعاني الدستورية ومفاهيم المواطنة والقانون تتعرّض للضياع نتيجة التمسّك بالأفكار القديمة والتوجهات المضمرة والتنكرّ للوعود الإنتخابية التي ضاعت بدورها في بحر النزاعات العقيمة.

ولا شكّ أنّ العراقية سوف تعاني من تصدّعات كبيرة في تنظيماتها وخصوصا لو قادت الأمور الى إدانة نائب رئيس الجمهورية في التهم الموجهة اليه من قبل القضاء العراقي أو أخفق المؤتمر الوطني العام المزمع عقده في الأيام المقبلة في الخروج بصيغة تراضي غير تقليدية لا تعيد معها الأوضاع الى نفس الدائرة المغلقة، إلاّ أنّ مفترق الطرق الذي فرضته الأحداث الأخيرة على زعماء العراقية لا يعني تماما نتائج أفضل وشروطا محسنة لصالح دولة القانون، كما لا يعني كذلك، بأنّ النظام السياسي سوف لن يظلّ معطوبا وبحاجة ماسّة الى الإصلاح والتغيير ومراجعة الأسس العميقة التي قامت عليها منذ البداية.

[email protected]