أتذكر دائما ما حصل لى مع أحد شيوخ الدين الصغار حينما كنت فى سن المراهقة منذ أكثر من ستة عقود ونصف، وهو العمر الذى يتقلب فيه الصبي فى افكاره فى أمور عديدة ومنها الدين، من ايمان متشدد الى شك يكاد يصل لحد الكفر. ففى أحد الأيام كنت قد قرأت آية فى القرآن الكريم تقول: (وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين)، و تساءلت فى نفسى: إذا كان عرض الجنة بقدر السماوات والأرض فأين تقع؟ وكنا فى شهر رمضان وكان الوقت مساء فقررت الذهاب الى الجامع القريب لأحصل من الشيخ على الجواب.
كان المصلون قد أنهوا صلواتهم قبل دقائق وجلسوا على الأرض ليستمعوا الى الخطبة اليومية التى تعود الشيخ على إلقائها فى أيام رمضان. وبالقرب من المنبر جلس الشيخ على أريكة وعلى جانبيه وجوه المحلة يرتدون حللا قشيبة، وكلهم من الأثرياء الذين يساهمون فى الصرف على شؤون الجامع. إخترقت طريقى بصعوبة بين الجالسين الى أن أصبحت فى مواجهة الشيخ ومن معه، فاضطربت واصطكت ركبتاي وندمت على إقدامى على هذا (الأمر الجلل!).
ولكن لم يكن هناك مجال للتراجع فقد اتجه الجميع بأنظارهم الي. وبصوت مرتجف سلمت على الجالسين على الأرائك ووجهت سؤالى الى الشيخ قائلا: هل يسمح شيخنا بأن أسأله عن آية كريمة لم أفهمها؟ انبسطت أسارير الشيخ لأن شابا صغيرا فى السادس الابتدائي يوجه اليه سؤالا وتوقع أن يكون الجواب عليه سهلا.
فلما طرحت عليه السؤال، إربد وجه الشيخ ونفرت عروق وجهه ومد يده نحوى وهو يصرخ بشدة قائلا: أتستغرب من قدرة الله؟ الله الذى خلق السماوات والأرض وما بينهما ألا يقدر أن يجد مكانا للجنة؟ واستمر الشيخ بالصراخ ولم أعد أسمع ما يقول، فقد تملكنى الرعب من الجالسين على الأرض وهم ينظرون الي شزرا، وخيل الي أن نهايتى قد قربت.
نهض ثلاثة من الجالسين واتجهوا نحوى مسرعين وعرفتهم فقد كانوا من معارف والدى. تظاهروا بالغضب علي وسحبونى الى خارج الجامع وطلبوا منى أن أسرع بالهرب. فركضت حتى وصلت الى بيتى حيث شعرت بالأمان والاطمئنان. وكانت ليلة ليلاء لم أذق فيها للنوم طعما، محاولا معرفة سبب غضب الشيخ. وعلمت فيما بعد أن الشيخ ليس من علماء الدين بل هو شبه أمي وكسول لا عمل له، امتهن الدين كوسيلة سهلة للحصول على المال واحترام الجهلاء الذين يسارعون الى تقبيل يديه تبركا واحتراما كلما صادفوه على قارعة الطريق. ولا أجد تسمية لمن كانوا فى مثل عقلية هذا الشيخ غير: شيوخ الظلام.
انقطعت عن الذهاب الى الجامع و قررت مواصلة المطالعة فى المكتبة العامة فى باب المعظم شمال بغداد، ووجدت فى الكتب الأجوبة على معظم ما كان يدور فى رأسى من الأسئلة حول مواضيع شتى ومنها الدين، ولم أعد بحاجة الى سؤال شيخ معتوه ينتفض فى وجهى ويصرخ كالمجانين.
ومرت الأعوام وبدأت أدرك أن السيطرة الدينية الفعلية على الناس ليست لعلماء الدين الكبار بل هى ملك لأمثال شيخنا الأحمق، فهؤلاء هم على اتصال دائم بالناس البسطاء ويتكلمون معهم بلغتهم التى يفهمونها. وقد وجدوا أنهم كلما زادت خطبهم حماسا وذما للطائفة الأخرى كلما زاد الاقبال على مجالسهم وما يتبع ذلك من زيادة فيما يستلمونه من نقود وهدايا.
يخطىء من يظن أن الخلاف بين السنة والشيعة ابتدأ دينيا ثم سيس. لم أعثر فى أي كتاب تأريخي أو ديني يذكر شيئا عن خلاف ذى بال بين الخلفاء الراشدين أو بين الإمام علي والخلفاء الراشدين الثلاثة الذين سبقوه، بل على العكس من ذلك فقد كانوا على وفاق ومودة، عدا مشاكل حصلت على عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان الذى وزع المناصب الكبيرة على أقربائه من الأمويين الذين جاروا على الناس، فتشكلت منهم الوفود ليشكوا همومهم للخليفة، فيقابلهم مروان بن الحكم قريب عثمان الذى أدت سوء تصرفاته مع الوفود التى حاصرت الخليفة أن تتجرأ عليه ويقتلوه بالرغم من أنه قد جاوز الثانية والثمانين من العمر.
وافق علي بن أبى طالب أن يتولى الخلافة بعد عمر وهو كاره لها، وانقلب عليه بعض الصحابة بتحريض من أم المؤمنين عائشة التى كانت تحث الناس على قتل عثمان بقولها : إقتلوا نعثلا. والظاهر أنه لم يدر بخلدها أن الخلافة ستؤول الى علي الذى وجدت عليه منذ حادث الافك حيث أشار على الرسول بطلاقها، فانقلبت عليه وطالبت بالثأر لعثمان، وكانت تشجع الناس على القتال فى واقعة الجمل، تلك المعركة كانت أول واقعة كبرى يقتل فيها المسلم أخاه المسلم، وقضى نحو 17 ألفا نحبهم فيها، واختلف فيها الصحابة بين مويد للامام وبين من نقضوا بيعته فكانت أول صراع دموي بين المسلمين ولا زلنا نعانى منه حتى الآن.
من أكبر أخطائنا هو تعظيم من نحبهم من الأئمة والأولياء فنضفى عليهم صفات خارقة ومنها العصمة ومعرفة الغيب، بينما نصت آيتان فى القرآن الكريم وهما آية 110 من سورة الكهف والثانية آية 6 من سورة فصلت، على أن الرسول الكريم انما هو بشر مثلنا: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى الي)، فعاش مثلما عاش باقى الناس يعمل ويأكل وينام ويتزوج ويستشير أصحابه الذين كانوا يصيبون و يخطئون كباقى البشر. هذا التعظيم هو الذى منع المسلمين من تقبل إنتقاد الأئمة والصحابة، فكيف تنتقد من تعتقد أنه معصوم؟
أستطيع القول أن البداية كانت فى سقيفة بنى ساعدة حيث كان الجدل على أشده بين المهاجرين والأنصار حول من يستخلف الرسول. وصل أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب واستطاعا إقناع الجميع بحصر الخلافة فى المهاجرين ووضع عمر يده فى يد أبى بكر وبايعه وتبعه سائر الحاضرين مع تردد البعض منهم. كان الامام علي بن ابى طالب فى وقتها مشغولا مع زوجه فاطمة الزهراء إبنة الرسول فى تجهيز جثمان أبيها، ولا ريب أنه كان قد امتعض بعض الشيء من حسم أمر الخلافة فى غيابه، ولكن لم يذكر أحد أنه قد سحب سيفه أو حرض الناس على عصيان الصديق، كذلك لم يذكر التاريخ أنه انتقد الخليفتين الأول والثانى بل على العكس كان ناصحا لهما ويشير عليهما بما فيه الخير للمسلمين.
وبعد أن انفض اجتماع السقيفة بدأ الناس يتهامسون حول خلافة ابى بكر، ومنهم من كان يدس ويحاول إثارة الفتن والنعرات القبلية، وعلى رأسهم الأمويون الذين فقدوا ملكهم بظهور الاسلام. ذكر الراحل المؤرخ الأديب المصري عباس محمود العقاد (ت 1964) فى كتابه (عبقرية الصديق): كان (ابو بكر) من (تيم) وهى بيت قرشي معدود، ولكنه لم يمنع أبا سفيان بن حرب الأموي أن يقول ما قال لعلي ابن أبى طالب يستثيره : ما بال هذا الأمر فى أذل قبيلة من قريش وأقلها؟).
هذه الواقعة وأمثالها تدل على أن الاسلام لم يكن فى الحقيقة قد دخل فى قلوب معظم الأمويين الذين استعادوا الحكم على عهد معاوية بن ابى سفيان ابن هند التى مثلت بجثة الحمزة عم النبي فى وقعة أحد. و أعلن معاوية والى الشام عصيانه على الامام علي خليفة المسلمين الرابع الذى عزله، وحاربه حربا شعواء قتل فيها الألوف من المسلمين، وظهرت خلالها أول جماعة منظمة زادت جيش الإمام ضعفا وهم الخوارج الذين قرروا قتل الإمام ومعاوية وعمرو بن العاص، فقتل الإمام ونجى معاوية وعمرو.
وبعد مقتل الامام غدرا وهو يصلى واختيار أتباعه إبنه الحسن خليفة لأبيه، لعبت أموال معاوية والأمويين دورا هائلا فى تشتيت جيش الامام، ولم يبق للحسن خيارا إلا ان يتنازل له عن الخلافة بشروط أهمها أن لا يورث معاوية الخلافة من بعده لابنه يزيد بل يترك أمر اختيار الخليفة للمسلمين. ولكن ما أن استتب الأمر لمعاوية حتى دس السم الذى قضى على حياة الحسن سبط الرسول. ثم أخذ البيعة لابنه يزيد قهرا أو بالمال. وكان ما كان من مقتل سيد الشهداء الحسين بن علي على يد جنود يزيد ومقتل الرجال من آل بيت رسول الله وسبي حفيدات الرسول وتسليمهم الى يزيد بن معاوية فى الشام. وفى أثناء حكم الأمويين ضربت الكعبة بالمنجنيق مرتين، الأولى على عهد يزيد بن معاوية والثانية على عهد عبد الملك بن مروان. كما هو مثبت فى كتب السنة والشيعة، ومع ذلك نجد من شيوخ الضلال من يقول (رضي الله عنه) عندما يذكر معاوية أو ابنه يزيد، ويقولون فى الوقت نفسه أنه تجب طاعة الولي سواء كان على حق أم باطل، ولكنهم لا يستنكرون عصيان معاوية للخليفة الشرعي. ولا أعرف لماذا يطلقون على معاوية (كاتب الوحي) وهو الذى أسلم قبل سنتين من وفاة الرسول فقط كان الرسول خلالها مشغولا فى تنظيم شؤون المسلمين فى مكة والحرب مع هوازن (معركة حنين) وغزوة الطائف وغيرها. وكذلك يقولون عن عمر بن العاص : رضي الله عنه، وهو شريك معاوية فى عصيانه. ولم يسلم ابن العاص الا فى العام الثامن للهجرة بعد أن تأكد أن المسلمين قد أصبحوا قوة لا قبل للمشركين بصدها. وعمر بن العاص هو الذى ارسلته قريش الى الحبشة لاعادة المسلمين الذين هاجروا اليها بسبب طغيان قريش، ورفض النجاشي طلبه فعاد الى مكة بخفي حنين. ربما يكون حديث الرسول: (الاسلام يجب ما قبله) صحيحا ولكن التأريخ لا يمكن أن يغفر لأولئك الذين آذوا الرسول ولم يسلموا إلا بعد يأس، فلا يصح أن نقول (رضى الله عنهم) مع أن هذا لن يغير شيئا.
لم أكن اريد الخوض فى موضوع قد مضى عليه أكثر من أربعة عشر قرنا ولكن إصرار شيوخ الظلام ومن يتبعهم من الجهلة على ما يبثونه من معلومات خاطئة أو محرفة دفعنى الى ذلك. أخبرنى أحد أصدقائى بأن أحد شيوخ الظلام كان يؤكد فى خطبة الجمعة على أن عمر بن الخطاب ذهب الى بيت الامام علي لأخذ البيعة لأبى بكر، ولم يكن الامام موجودا ففتحت فاطمة الزهراء بنت الرسول الباب، وكلمها عمر بخشونة ودفع الباب بشدة فكسر ضلعها (وبعضهم يقول أسقط حملها )!!. إن الشيخ الأحمق قد ذم عليا بهذه القصة الملفقة من حيث أراد ذم عمر، فكيف صبر علي على من أهان وآذى زوجته بنت الرسول ولم يواجه عمر؟ من يعقل أن الإمام الذى قهر صناديد قريش يسكت على هذه الإهانة لو حصلت؟
شيوخ الظلام لا يكتفون بالسيطرة الدينية وتعميق الخلافات بين المسلمين، بل يريدون السيطرة السياسية أيضا، وهذا ما يفعلونه فى العراق منذ إسقاط الطاغية، ولولا الأمريكان لكنت تجدهم اليوم يتسكعون فى شوارع قم وعمان والرياض. والمؤسف هو أن الأميين الجهلاء ndash;وما أكثرهم فى العراق- منحوهم كراسي لا يستحقونها فى البرلمان.
إن ما يحتاجه العراقيون بصورة خاصة هو الإلفة والمودة بين جميع الطوائف الدينية والمذهبية والقومية، و حل الارتباط بالماضى والنظر الى المستقبل لبناء البلد المخرب، فقد مضى ما مضى ولن يستطيع أحدا أن يرده، ومن يريد أن يتقدم الى الأمام لا ينظر الى الخلف فقد يسقط فى حفرة وتدق عنقه.
المراجع التأريخية:
تأريخ الطبري (تاريخ الرسل والملوك)
ابن الأثير (الكامل فى التأريخ)
مروج الذهب للمسعودي
تأريخ اليعقوبي
تاريخ الخلفاء للسيوطي
الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطىء) : تراجم سيدات بيت النوة.
- آخر تحديث :
التعليقات