ان ما شجعني على كتابة هذا المقال هو فوز الديكتاتور الرئيس الفينزويلي العنيد quot;هوغو شافيزquot; بولاية رئاسية جديدة، هازما بذلك داء السرطان و الولايات المتحدة الأمريكية في آن، حيث فاز الرجل في انتخابات ديمقراطية لا غبار أثير حول نزاهتها، باعتراف خصمه quot;كابريلس رودنسكيquot; المدعوم داخليا و خارجيا، و مئات المراقبين الدوليين الذين واكبوا عملية انتخابية أجريت وفقا للمعايير المعتمدة في أعرق الديمقراطية و أرسخها دوليا.
و إذا أراد متابع محايد وصف برنامج الرئيس شافيز الانتخابي، فلن يجد وصفا أدق من القول بأنه quot;برنامج الحزب الديكتاتوري الفينزويليquot;، و ليس هذا بطبيعة الحال اسم الحزب الحاكم الثوري القوي في كاراكاس، إنما توصيف دقيق لمضمون ميثاقه السياسي و التنموي، فقد أعلن شافيز مباشرة بعد إعلان فوزه أنه ماض بلا مواربة أو مداراة أو مهادنة أو خوف من عدو داخلي أو خارجي، في إقامة جمهورية بوليفارية اشتراكية تنال فيها الطبقات الفقيرة و المعدمة داخليا حظها من الثروة الوطنية لبلادهم بقوة الدولة و إرادة الرئيس القاهرة، و تنال فيها الشعوب المحاصرة و المستهدفة من قبل القوى الامبريالية العظمى، ككوبا و إيران و سوريا و كوريا الشمالية، حقها من التضامن الفيزويلي معها.
و قد أثبت شافيز أنه بمقدور quot;ديكتاتورquot; أو quot;مستبد عادلquot; أن يحظى بثقة شعبه و أن يفوز بغالبية أصوات مواطنيه في انتخابات نزيهة و ديمقراطية، و أن quot;الديكتاتوريةquot; ليست نقيض الديمقراطية في كل الأحوال، و أنه بمقدور الشعوب وفقا لخصوصياتها الثقافية و موروثاتها الحضارية أن تقوم بصياغة أنظمة حكم ذات نكهة خاصة لا يمكن نعتها بالديمقراطية الكاملة كما لا يمكن حشرها في لائحة الديكتاتوريات المستبدة المطلقة.
و يثير شافيز حنق الطبقات الأرستقراطية و البورجوازية التي طالما حكمت فينزويلا، حيث لم تفوت لفظا كريها إلا نعتته به، و لم تأل سبيلا إلا و سلكته لإسقاط نظام حكمه، بما في ذلك الانقلاب العسكري بتحفيز من القوة العظمى الأولى في العالم، أي الولايات المتحدة الأمريكية، و بالمقابل فإن شافيز لم يسع أيضا لكسب ود هذه الطبقات، و لم يتودد إليها أو يتنازل لها تحت ذرائع الواقعية السياسية و المصالح العليا للبلاد و التوازنات الكبرى و الخوف من العقوبات الدولية، بل اختار الرهان على طريق آخر، و هو العمل الدؤوب لأجل إرضاء غالبية الفقراء من بني قومه، و السعي الحثيث إلى الرفع من مستوى معيشتهم بتوفير السكن الاجتماعي لهم و التعليم المجاني للابنائهم و تعهد المؤسسات و المراكز الصحية التي تقدم لمرضاهم العلاج و العناية.
و عندما أصيب شافيز قبل سنتين تقريبا بداء السرطان القاتل، لم يختر الذهاب للعلاج في الولايات المتحدة أو فرنسا أو ألمانيا أو حتى اليابان، بل اختار كوبا الجارة المحاصرة حصارا جائرا غائرا ظالما منذ ما يزيد عن الخمسين عاما، تماما كما راهن على تغيير أمريكا اللاتينية برمتها، حتى تنضج نموذجها الجديد في الحكم، الجامع بين آليات اختيار الحاكم بطريقة ديمقراطية، و بين آليات الرؤية الاجتماعية في بناء نماذج التنمية الاقتصادية.
و في مثل هذا السلوك تأصيل للايديولوجية quot;البوليفاريةquot; الخاصة، فقد كان سيمون بوليفار ملهم شافيز الأول، رجلا من الطبقة الوسطى الميسورة، لكنه جمع في برنامجه الثوري الذي صاغ أمريكا اللاتينية المستقلة بين مقاومة الامبريالية ممثلة في الاستعمار الاسباني آنئذ و الحكومة الاجتماعية التي تعمل على النهوض بأوضاع الفقراء و المساكين و أبناء السبيل.
وتعد أمريكا اللاتينية على الرغم من بعد المسافة، أقرب الأرض إلى بلاد العرب و المسلمين، من نواحي كثيرة، من بينها مكانة الدين في المجتمع، إلى جانب دور العائلة الرئيسي باعتبارها نواة الحياة الاجتماعية الأولى، و معايشتها لفترة استعمارية طويلة نسبية، و مكابدتها إلى اليوم من ذلك التمزق النفسي بين رغبات جامحة في مجاراة الغرب سياسيا و اقتصاديا، و الاستقلال عنه في ذات الوقت حضاريا و ثقافيا و معنويا، و أخيرا ذلك التداول في المراحل التاريخية من عمر الدول المستقلة بين أنظمة استبدادية عسكرية في الغالب، و أخرى مدنية ديمقراطية.
و تلوح في أفق بعض دول الربيع العربي اليوم، مع تعاظم حدة المشاعر السلبية لدى عدد كبير من أبناء شعوبها، ملامح الحل الفينزويلي أي تسليم السلطة ديمقراطيا للحزب الديكتاتوري أو حزب المستبد العادل الذي سيطرح على الشعب برنامجا ثوريا يقوم على اقتلاع هذه الطبقة السياسية الفاسدة التي تكاد تضيع الثورة و الدولة معا، و على إعادة الهيبة للدولة و الحكومة و القانون.
- آخر تحديث :
التعليقات