يبدو تركيب قطع quot;بيزلquot; المستقبل العربي في المدى المنظور، لمشاهدة صورته كاملة وواضحة، ما يزال عملية صعبة وشائكة ومحفوفة بالأخطاء، على الرغم من الإيحاءات والمؤشرات التي يمكن التقاطها وفهمها من بعض هذه القطع المأخوذة من مشاهد الواقع القائم حاليا في مختلف دول الربيع العربي، والتي لربما شجعت على الاعتقاد ثم القول بإمكانية وجود مخطط جدي للالتفاف على الثورات العربية وإجهاض الحلم العربي في إقامة أنظمة ديمقراطية حقيقية تكون منطلقا لمشروع حضاري عربي وإسلامي جديد.
و إذا ما انطلقنا من أن دول العالم العربي شكلت في علاقتها ببعضها ما شبه بأحجار الدومينو المتعاقبة، حيث أثبتت ذلك حالة الثورة التونسية، التي أطلقت الشرارة الأولى في جسد الأنظمة الاستبدادية القائمة، فاندلعت النيران في الجزائر ومصر وليبيا والمغرب والبحرين واليمن وسوريا، فإن ما يرى اليوم يظهر أمر quot;الثورة المضادةquot; كما لو أنها موجة quot;تسوناميquot; في طريقها إلى إطفاء النيران المشتعلة منذ أشهر على نحو يخمد اللهيب لكنه سيمنع الأرض من أن تنبت شيئا مختلفا عن ذلك الذي ألفه العرب من قرون، أي طائفة جديدة من الأنظمة المستبدة المختلفة شكلا والمتواصلة مضمونا مع من سبقها.
أول أجزاء الصورة المشتتة ظهر في رأيي مع عزل مدير quot;الجزيرةquot; السابق وضاح خنفر أياما بعد نجاح الثورتين التونسية والمصرية، في إيذان ربما بنهاية حكم الإسلاميين لهذه القناة العتيدة التي لعبت دورا طلائعيا في تفجير ونصرة حركة الربيع العربي، ولعل الموجهين من quot;أقصى المدينةquot; لهذه الأداة الرهيبة في توجيه وصناعة الرأي العام في العالم العربي، قد بدأوا يعدون quot;الجزيرةquot; للعب دور جديد لا شك أنه لن يصب في مصلحة الحركات الإسلامية الصاعدة.
و ثاني الأجزاء ما آلت إليه الثورة في البحرين أين دفعت الحالة الثورية إلى الانتهاء كتحرك احتجاجي طائفي جرى إخماده بالقوتين الأمنية والعسكرية دون أن تصحبه أي حالة إصلاحية حقيقية أو تعدل فيه موازين القوى السياسية لتكون أكثر مصداقية في تمثيل الحراك الشعبي في هذا البلد الصغير ذي الأغلبية الشيعية سكانيا والأقلية السنية ملكا وحكما.
ثالث أجزاء الصورة جاء من الجزائر التي بدا أن قيادة الدولة العميقة فيها، حيث تتعايش معا منذ عقود نخب عسكرية ومدنية، أحنت رأسها بعض الشيء للريح من خلال الإعلان عن إصلاحات سياسية وتنظيم انتخابات برلمانية جديدة، لكنها سرعان مع رفعت هذا الرأس من جديد بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات التي أحالت الأحزاب الإسلامية إلى مأزق وأقرت جبهة التحرير القوة الأساسية في البلاد، كما لو أن الجزائر بلد لا يتوسط تونس والمغرب، أو لا يمت بصلة لهذا العالم العربي المائج الهائج طلبا للتغيير والإصلاح.
الجزء الرابع من هذه الصورة الضبابية الحبلى بالمفاجآت، قادم من أرض الكنانة مصر، فبعد أن أصبح البرلمان المنتخب الذي هيمن عليه الإسلاميون مؤسسة بلا معنى أو تأثير على الرغم من أنها الوحيدة التي يمكن أن تمثل السيادة الشعبية والشرعية الثورية، فإن الانتخابات الرئاسية في طريقها إلى أن تجلس رجلا من النظام السابق على كرسي الرئاسة، ليمثل امتدادا وضمانة في الآن نفسه لاستمرار المجلس العسكري في الحكم، وقد أثبت هذا المجلس قدرات خارقة خلال الأشهر الماضية على ملاعبة الطبقة السياسية والالتفاف على كافة مطالب الثوار، من خلال اتباع أسلوب غير مسبوق مفاده التفاعل مع المطلب المرفوع إيجابيا ثم تفتيت مفعوله وتمييعه على مراحل حتى الوصول إلى الواقع بتثبيت نقيضه تماما.
و أما الجزء الخامس فمصدره اليمن السعيد، حيث أخرج علي عبد الله صالح من الباب ليعود من النافذة، وحيث ظهر مآل الثورة اليمنية إلى مزيد من اليأس والإحباط الذي يسود الثوار اليمنيين ويثني من عزائمهم، فقد أضحى عدوهم أكثر غموضا بعد أن كان ظاهرا، وقد أوصلوا بأيديهم محل سر ديكتاتورهم السابق إلى رئاسة شرعية أو ما شابهها، وأبقوا على الحزب الذي احتضن المشروع الاستبدادي عقودا، هذا الحزب الذي أبقى بدوره على الرئيس نفسه ليظل اللاعب السياسي الأول في البلاد من وراء حجاب.
آخر أجزاء الصورة وأكثرها قتامة ذلك الملتقط من المشهد السوري، أين يبدو نظام بشار الأسد من خلال ممارسته لعبة خلط الأوراق الطائفية والسياسية، ورفعه زيفا لشعار مقاومة المشروع الأمريكي الصهيوني واستغلاله البشع للتواطؤ الإقليمي والدولي، وخصوصا الدعم الإيراني الروسي الصيني، في طريقه إلى الاستمرار في الحكم سنوات أخرى جاثما على صدر الشعب السوري، الذي ضرب صورا في البطولة والفداء طلبا للتحرر، لكن طريقه إلى تحقيق المنال ما يزال فيما تجلى إلى غاية الآن شاقا وطويلا.
إن ما يشجع أي باحث متأمل في هذه القطع المفزعة، على الاستنتاج بأن طبخة ما قد تكون مسمومة، تعد لتوضع قريبا في القصعة العربية الجائعة، فتجعل من الحالة التونسية ربما استثناء ديمقراطيا في المنطقة يسهل تطويقه أو تأزيمه أو إخراسه، على أن تساق بقية الحالات العربية إلى أوضاع جديدة مائعة قائمة بالأساس على إعادة إخراج القديم في وضعية تلقى قبولا جماهيريا أوسع، مسألة غير مستغربة أو مستبعدة، خصوصا في ظل تقدير غربي تقليدي فحواه عدم السماح لأي قوى سياسية يقوم خطابها الفكري على التطلع إلى استقلال حضاري حقيقي للعالم العربي الإسلامي، بالوصول إلى الحكم وتوجيه دفة المستقبل فيه.
* كاتب وإعلامي تونسي
- آخر تحديث :
التعليقات