لا يتردد شيطان الاستبداد في أن يزين للقابض على السلطة جريمة السعي إلى جعلها مطلقة بذريعة أن الأمر ضرورة يبيح كل محظورة، تماما كما يسعى بعض مستشاري السوء أن يزينوا لسلطان حركة النهضة أمر إدخال الإعلام quot;العموميquot; بيت الطاعة quot;الحكوميquot;، بحجة أن قلة قليلة من اليساريين المتطرفين أو بعض فلول النظام السابق، يستغلون وسائله لعرقلة مشاريع السلطة أو تحريض العامة ضدها و التشكيك في بياض حقائقها الناصعة.
إن النجاح في الاختبار الديمقراطي لا يتأتى كما هو متعارف عليه، من أن يتعايش الماسك بمقاليد الحكم مع من يحب و يرضى، فذلك حال المستبد أيضا، بل إن كل النجاح في أن يقبل الحاكم بالعيش مع من هو أشد اعتراضا و مخالفة، و في أن يكون مستعدا لدفع دمه من أجل أن يقول مخالفه رأيه مثلما عرف فلاسفة الأنوار و آباء الديمقراطية الخلق الديمقراطي قبل مئات السنين، و لهذا فإن الكيفية التي ستدير بها حركة النهضة معركة quot;الإعلام العموميquot; التي قررت إعلانها، ستكون شهادة اختبار جديد لحقيقة توجهاتها الديمقراطية، التي طالما أكدت عليها.
و على الرغم من اقتناعي بوجود أطراف يسارية و يمينية متطرفة تعمل بما أوتيت من عزم و قوة على إفشال عمل حكومة الحركة الإسلامية التونسية، من خلال بث المزيد من الأعمال التي تعرقل الحركة الاقتصادية، و تدفع البلاد إلى الفوضى، بما قد يكسر مسيرة الانتقال نحو الديمقراطية، و يخلق في الأفق المنظور مناخا مناسبا لظهور بدائل حكم ديكتاتورية تحت مبررات و عناوين متعددة، فإن كل ذلك لا يبرر ما أقدمت عليه الوزارة الأولى في التعامل مع سد الشغور الحاصل في المواقع القيادية للمؤسسات الإعلامية الحكومية، في سيرة تكرر منهج النظام السابق و خطوة أحادية قد تقود إلى خطوات أخرى مشابهة.
إن إخضاع الإعلام العمومي باعتباره إعلاما يعبر عن مصالح الشعب العليا، و التشبث بإعادته مرة أخرى إلى quot;إعلام حكوميquot; يمثل وسيلة دعاية (بروباغندا) للحكومة، لن يفيد صاحب القرار أي النظام الجديد، ناهيك عن إفادته الشعب و الوطن، فالأصوات المنادية من داخل الحكومة بخنق الأصوات المخالفة، بحجة أنها لا تمثل سوى أقلية ناشزة، هي نفسها التي ستعمل باستمرار ndash; إن هي نجحت هذه المرة- في المضي في خطوات استبدادية أخرى، و لن تعدم في كل مرة قادمة أن تجد للسلطان حجة، في ظاهرها مقنعة و في واقعها باطلة باطشة.
إنه ليس بمقدور متابع الزعم بأن أداء الإعلام الحكومي في تونس ما بعد الثورة، لا تشوبه شائبة، أو أنه كان على الدوام مهنيا محايدا، لكن لا أحد أيضا بمقدوره أن ينفي أن أداء هذا الإعلام قد تطور كثيرا، على نحو أصبحت معه قنوات التلفزية الوطنية الأكثر مشاهدة قياسا بتلك العربية التي طالما استحوذت على لب المشاهد التونسي، و قد أضحت نشرة أخبار الثامنة مساء على الوطنية التونسية الأولى مصدر خبر البلاد الرئيسي لدى أكثرية أبنائها، و إن دربة الإعلاميين الديمقراطية لم تقل تطورا عن دربة السياسيين و سائر المواطنين، فقد كان لزاما على الجميع في تونس الجديدة تعلم السلوك الديمقراطي كدرب الوليد مع تعلم المشي خطوة خطوة.
و إذا ضاقت الحكومة التونسية اليوم بإعلام متشبث باستقلاليته و حياديته، فإنها ستضيق غدا بكل موقف مخالف و شخص معارض، و ستجد في أوساط حزبها الرئيسي من يحضها من باب التزلف و الرياء و المصلحة الضيقة، أو من باب الجهل و العناد و المكابرة، من يشجعها على إتيان فاحشة إلغاء الآخر المخالف أو إدخاله عنوة و قسوة إلى بيت الطاعة، و إن كل سلطة كما يقال مفسدة و كل سلطة مطلقة مفسدة مطلقة، و إن كل الفضل في أن يحمد للحكومة صبرها على ظلم الإعلام لها، لا أن يكتب في سجلها أنها كانت للإعلام ظالمة و للرأي الآخر نافية.
و إن إعلاما مدجنا و مداهنا و مرائيا و خشبيا و سائرا في ركاب السلطة، لن يفيد النظام بشيء و لن يساعده على تهدئة العامة أو إثناء المعتصمين و المضربين و سائر المحتجين أو إقناع أحد من المواطنين بفضائل الحكم الجديد و مساعيه التنموية الحميدة، بل إن الإعلام إذا ما كان مستقلا و محايدا و مهنيا، فإنه سيكون خير معين للسلطان، فهو مرآته التي يرى فيها عيوب وجهه و بدنه فيعمد إلى إصلاحها، و عينه الثاقبة التي يرى من خلالها ما خفي عنه من مظالم فيسارع إلى رفعها، فهل من المعقول أن يسير عاقل إلى تحطيم مرآته الصادقة أو فقء عينه الثاقبة؟