كانت أهداف الثورة التونسية اقتصادية واجتماعية في المقام الأول، قبل أن تتحول في أيامها الأخيرة إلى أهداف سياسية تطالب بنظام ديمقراطي قائم على التعددية السياسية واحترام حقوق الإنسان، تماما كما تحولت بعد نجاحها من أيدي الجماهير الشعبية الموحدة حول شعاراتها إلى مسؤولية نخب المعارضة السابقة المنقسمة حول السلطة ومغانمها.
و الرأي أن الحكم على الثورة وتقييم مسارها خلال السنة المنقضية والسنوات القادمة، سيكون من جنس أهدافها بالدرجة الأولى، فعلى الرغم من النجاح البين الذي حققه النموذج التونسي في الانتقال السياسي إلى الحكم الديمقراطي، وانتقال البلاد من حالة الشرعية التوافقية إلى حالة الشرعية الشعبية بعد انتخابات 23 اكتوبر الماضي، فإن النجاح الأهم الذي ما تزال تنتظره القوى الاجتماعية التي أنتجت الثورة، هو بناء نموذج تونسي تنموي ناجح في المجال الاقتصادي، يمتص بطالة قرابة مليون عاطل، ويحول دون إفلاس صناديق التقاعد التي تدفع جراية مليون متقاعد.
و بحسب تصريحات قادة الحكم الجديد، وعلى رأسهم رئيس الحكومة حمادي الجبالي، فإن أقصى ما يطمح إليه الحكام الإسلاميون وشركائهم للسنة الجديدة هو تشغيل ما بين 75 ومائة ألف عاطل، أي أقل من عشر العاطلين عن العمل، ونسبة نمو ستبلغ في أقصى درجات التفاؤل 4,5 بالمائة، أي أقل من تلك التي اعتاد النظام السابق على تحقيقها طيلة السنوات العشرين الماضية.
و خلافا لآمال إسلاميي حركة النهضة، في أن تهب الدول العربية الصديقة، وخصوصا منها قطر وليبيا، إلى نجدة مشروع الحكم الجديد في تونس، فإن مصادر وثيقة تؤكد أن الحكومة القطرية ما تزال مترددة في مد يد العون، بل إنها لم تبادر حتى الساعة إلى تفعيل سندات الضمانات البنكية البالغة نصف مليار دولار، التي وعدت بتسديدها للحيلولة دون انهيار الاقتصاد التونسي.
و لا يعتقد خبراء الاقتصاد أن الجار الليبي سيكون قريبا قادرا على مساعدة الشقيق التونسي، واستيعاب نسبة كبيرة من البطالة التونسية، وفقا لتصريحات قادة الحركة الإسلامية، ممن أشاروا إلى وعود ليبية بتشغيل مئات الآلاف من الشباب التونسي، فالنظام السياسي في طرابلس لا يبدو مؤهلا للاستقرار ولتدشين حركة واسعة وسريعة من إعادة الإعمار، في ظل مؤشرات عن تنازع بين الجماعات المقاتلة على السلطة، ومنح الأولوية للدول التي كانت أكثر فاعلية ومباشرة في إسقاط نظام العقيد القذافي، من قبيل وفرنسا وبريطانيا وايطاليا وتركيا.
كما لا تتحرج جهات خليجية نافذة، في غالبيتها سعودية وكويتية، في إبداء اعتراض واضح وصريح على أي توجه لدعم نظام تونسي يقوده الشيخ راشد الغنوشي، الذي عرف بمواقف اعتبرت في حينها مساندة لنظام صدام حسين وممالئة لاحتلاله للكويت، فضلا عن الآثار التي خلفتها تصريحات الشيخ الأخيرة في واشنطن، والتي قيل أنها أغضبت دوائر الحكم في أكثر من دولة في الخليج العربي.
و مثلما يبدو المحيط الإقليمي العربي غير ملائم لأي دعم حقيقي للاقتصاد التونسي، فإن المحيط الدولي لن يظهر مختلف السيرة، فالأمريكيون مثلما كشف السيناتور ليبرمان لن يقدموا أكثر من قروض بأسعار فائدة مخفضة نسبيا، أما الأوربيون فقد بقيت وعودهم إلى الآن حبرا على ورق، إضافة إلى انشغالهم الكبير بمعالجة أزمات عملتهم الموحدة وإشراف أكثر من دولة عضو في اتحادهم للإفلاس.
و بالإضافة إلى هذه المؤشرات الخارجية السلبية، تضغط المؤشرات الداخلية أيضا على دماغ حكام تونس الجدد، فالمنظمة الممثلة للرأسمالية المحلية عبرت عن تشاؤمها إزاء حركية الاقتصاد خلال السنة الجديدة، مطالبة الإدارة بمزيد من التنازلات الضريبية والإجراءات الأمنية الحازمة، أما المنظمة الممثلة للعمال فيتوقع أن تتجه إلى مزيد من التشدد في التعامل مع الحكومة سعيا لترميم شعبيتها في الأوساط العمالية، المتذمرة من اهتراء قدرتها الشرائية، ولم تشذ إدارة البنك المركزي التونسي عن سابقيها في الإنذار بإقبال البلاد على حالة ركود وانكماش وربما فوضى.
و لا شك أن الجهات والمناطق الداخلية المهمشة طيلة العقود الماضية، والتي طالما شعرت بالحرمان بقدر شعورها بأنها هي مفجرة الثورة، ستشكل مجتمعة حزام شكوى وتذمر واحتجاج متواصل، ضاغط بقوة على مؤسسات الحكم الجديد من أجل تحقيق سريع لأهداف الثورة التنموية الاقتصادية والاجتماعية، وعاجز على الصبر طويلا على وعود السياسيين البراقة سابقا، ومطالبهم الداعية إلى التفهم حاليا، بما سيخلق في كل وقت وحين بؤر توتر وتمرد على السلطة المركزية، قد يدفعها إلى ممارسة قدر من العنف لقمعها والحيلولة دون اتساعها.
في ظل هذه الأجواء، لا تبدو مؤسسات الحكم أيضا بالقوة والصلابة المطلوبة لمواجهة التحديات المطروحة، فهي على الرغم من اكتسابها للشرعية الشعبية تظهر في عيون غالبية المتابعين فاقدة للشرعية الثورية، أو لذلك الزخم الثوري اللازم لاكتساب الثقة وإيقاف الأطراف المعنية بالعملية التنموية عند مسؤوليتها وإجبارها إن لزم الأمر على تقديم التنازلات المطلوبة لإنقاذ الوطن.
و إن أخطر ما في الأمر، أن يكون منتهى الثورة عند الإسلاميين التونسيين في حركة النهضة، هو الوصول إلى الحكم، فمن يتأمل في السير الذاتية لمجمل أعضاء حكومة السيد الجبالي، سيلاحظ أنها جاءت باهتة خالية من عناصر مشهود لها بالخبرة والكفاءة ومميزات الخلق والابتكار، جرى تعيينها ربما تقديرا لسيرة نضالية في المعارضة أو قرابة دموية أو مصاهرة أو ولاءات للقيادة الحزبية أو توازنات اقتضتها التحالفات أو ترضيات اقتضتها المعادلات المناطقية والجهوية، وهو ما يعني في كل الأحوال أنها ليست الحكومة الملائمة للمرحلة والمؤهلة لتحقيق أهداف الثورة كما يتصورها غالبية التونسيين.
كما ستظهر هذه الحكومة عاجزة أيضا عن مواجهة عادلة مطلوبة مع الرأسمالية المحلية، التي كانت المستفيد الأبرز من مرحلة الحكم الماضية، في ظل ملامح التوجه الاقتصادي الليبرالي التي برزت في برنامج حركة النهضة، والتي تصب في اتجاه تعزيز الطابع الرأسمالي للدولة التونسية بدل العمل على تعزيز الطابع الاجتماعي الذي طالما ميز البنى التحتية لهذه الدولة منذ قيامها سنة 1956، بموازاة مع توجه تحديثي على المستوى القانوني والتشريعي الخاص بحقوق وحريات الأفراد ومكانة الدين والمرأة في المجتمع.
إن توجه حركة النهضة الإسلامية الحاكمة في تونس، إلى انتزاع رضا الرأسمالية المحلية والقوى الدولية وطبقة الانتلجنسيا المستقرة غالبا في العاصمة والمدن الكبرى، قد وضع قاطرة الثورة على سكة غير ثورية، وسيفضي في النهاية إلى إغضاب الطبقات الشعبية، التي لن تنجح المسكنات الدينية أو الايديولوجية في مواصلة إقناعها وإخضاعها، وإغضاب كافة الأطراف، التي بدون مشاركتها الفعالة لن تكتسب الديمقراطية أي معنى، فديمقراطية دون تنمية، لن تختلف كثيرا في نظر عامة المواطنين عن تلك التنمية التي طالما برر لإمضائها بإلغاء الديمقراطية.