كانت القمة العربية الموازية المنعقدة يومي 4 و 5 فبراير 2012 بالقاهرة، بدعوة من التحالف العربي من أجل دارفور، فرصة عزيزة بالنسبة لي للقاء الإمام الصادق المهدي رئيس الوزراء السوداني الأسبق و رئيس حزب الأمة و حفيد الإمام المهدي الكبير قائد الثورة العظيمة ضد الإنجليز، إلى جانب عدد من وجوه المجتمع المدني العربي و قادة المنظمات الإنسانية العالمية، جاءوا إلى العاصمة المصرية لتنبيه العالم إلى أن طبول الحرب تدق في السودان، و أن اندلاع النزاع المسلح المدمر قريب الوقوع بين الشماليين و الجنوبيين من جديد، إن لم يهب المجتمع الدولي للقيام بواجباته و الضغط مجددا من أجل العدل و السلام.
و كان من أهم ما سمعت من الإمام الصادق خلال اللقاء، تأكيده على ضرورة أن تمنح الحركات الإسلامية فرصة للانخراط في المشروع الديمقراطي و أن لا يتم الاعتماد على المعايير الغربية في بناء الديمقراطيات الوليدة في البلدان العربية بعد ثورات الربيع العربي، بالنظر إلى الخصوصيات الثقافية و الحضارية، و أن يكتفى بالاشتراط على الإسلاميين احترام قواعد الديمقراطية و قيم التنوع و التعددية ليسمح بقبولهم، و أن لا يتشبث بالعلمانية بمعناها الحرفي كما طبقت في الغرب، و إلا فإن النتيجة ستكون دفع الأوطان إلى حروب أهلية مدمرة، لن تفيد أحدا من الطرفين.
و ينتمي الإمام الصادق المهدي في رأيي إلى تلك المدرسة الإصلاحية الإسلامية، التي سبقت بعقود مدرسة الإخوان المسلمين في الظهور، و تعود في جذورها إلى حركات الإصلاحيين المسلمين الكبار، الذين ظهروا ابتداء من القرن التاسع عشرة في أكثر من بلد عربي، من قبيل الإمام محمد أحمد المهدي و رفاعة طهطاوي و جمال الدين الأفغاني و محمد عبده و رشيد رضا و شكيب أرسلان و سواهم ممن دعا إلى تجديد الفكر الإسلامي بما يضمن انسجامه مع العصر و يفتح المجال أمام المسلمين لربح رهان التقدم بعد أن قادهم غلق باب الاجتهاد إلى التخلف.
و قد استمرت المدرسة الإصلاحية الإسلامية متميزة في خطها عن مدرسة الإخوان المسلمين التي ظهرت أواخر العشرينيات في مصر على يد الداعية الشيخ حسن البنا، حيث ظهر قادة و مفكرون في أكثر من بلد عربي، جمعوا بين الاضطلاع بوظائف تجديد الفكر الإسلامي و النضال السياسي الوطني ضد المستعمر، من قبيل الشيخ عبد العزيز الثعالبي في تونس و الأستاذ علال الفاسي في المغرب و الشيخ الابراهيمي في الجزائر، و قد حرص جميعهم تقريبا على جعل الإسلام عاملا موحدا لا مفرقا بين المسلمين، و رفضوا أن يخصوا أنفسهم أو أتباعهم بصفة مميزة دون سواهم من المواطنين.
و قد بادر الإمام الصادق المهدي في السودان، سيرا على خطى جده و خطى هؤلاء المسلمين، على تأسيس حزب الأمة السوداني وفقا لهذه الرؤية، فهو من جهة يعتمد المرجعية الإصلاحية الإسلامية، لكنه من جهة أخرى حزب وطني، يؤمن يخصوصية الوطن السوداني، و يدعو إلى السودان أولا، سودان متشبث بهويته الإسلامية الدينية و تنوعه الثقافي و العرقي و الديني في آن، و هو ما جعل حزب الأمة مختلفا في أطروحاته الإسلامية، عن تلك التي ارتكزت عليها الحركة الإسلامية السودانية بقيادة الدكتور حسن الترابي، الذي عاد قبل سنوات إلى مراجعة أفكاره، والعودة إلى مربع أقرب ما يكون إلى مربع حزب الأمة فيما يتعلق بنزعته الوطنية و رؤيته الاجتهادية.
و إن من أشبه التجارب المغاربية بحزب الأمة السوداني، حزب الاستقلال المغربي الذي أسسه العلامة علال الفاسي، حيث جمع بين خلفية إصلاحية إسلامية و برنامج عمل وطني، يؤمن بوجود وطن اسمه المغرب، مرتبط بهويته الإسلامية لكنه مقر في الوقت نفسه بتنوعه الحضاري و الثقافي و العرقي، وعامل على دفع البلاد إلى مواجهة العصر بانفتاح و استيعاب و رغبة في كسب معركة التقدم.
و لم تكن الحركة الوطنية التونسية قبل قيام دولة الاستقلال، مختلفة في هذه الرؤية الجامعة بين الإسلام و التعددية، حيث كان علماء الزيتونة عماد هذه الحركة، و كان زعماؤها من أمثال الشيخ الثعالبي و الزعيم بورقيبة و العلامة ابن عاشور غير مختلفين لعقود طويلة من العمل، حول انسجام الجمع بين المرجعية الإسلامية التجديدية و الالتزامات الوطنية العصرية، على نحو جعل المسلمين باستمرار quot;مسلمينquot; فقط، لا quot;مسلمينquot; و quot;إسلاميينquot; مثلما جعلتهم خلال العقود الأخيرة المدرسة الإخوانية.
في نهاية اللقاء، دعوت الإمام المهدي إلى أن يكون صوته أعلى، و أن يصل إلى المسلمين باجتهاداته المستنيرة في كل مكان، حتى لا يترك الإسلام مسؤولية حركة واحدة أو اتجاه واحد، و حتى لا تتكرس أكثر حالة الاستقطاب التي نعيشها، بين quot;الإسلاميينquot; و quot;أعداء الإسلاميينquot;..فهناك صوت اجتهادي آخر قوي يجب أن نعود إلى الإنصات إليه، و الإمام المهدي أحد نماذجه المشرفة.