كنا نفتخر في تونس بأننا نملك المجتمع الأكثر تجانسا في العالم العربي، فالتونسيون مسلمون عربا سنة مالكيون بنسبة 99 بالمائة، و قد اجتهد الزعيم الحبيب بورقيبة طيلة عهده الممتد على ثلاثة عقود لبناء دولة مدنية حاربت دون هوادة أي نزعة تقسيمية تفتيتية، و عملت على صهر كل نزعة قبلية/عروشية في بوتقة الوحدة الوطنية.
و لم نرى أن الرئيس السابق زين العابدين بن علي قد شذ في زمنه عن هذه السيرة، إذ توجت الأجيال الشابة التي ترعرعت في ظل حكمه، أو ما سميت بquot;أجيال التغييرquot; (نسبة للتغيير أو التحول الذي أطاح بالزعيم بورقيبة في 7 نوفمبر 1987)، مسار بناء الشعب الموحد أو الوحدة الوطنية بإنجاز ثورة 17 ديسمبر 2010، إذ لم تعرف الراية الوطنية التونسية مجدا مثل ذلك الذي عاشته طيلة 23 يوما و انتهى برحيل الرئيس إلى جدة، فقد كانت وحدها هذه الراية الحمراء البيضاء المرفوعة، و كان التونسيون تونسيين فقط.
و الحق أنني كنت من الذين يؤمنون بأنه إن كان هناك بلد مؤهل لقيام نظام ديمقراطي على أرضه في العالم العربي، فلن يكون سوى تونس، لاعتبارات عدة لعل أهمها وجود مجتمع وطني موحد لا انتماءات quot;ما قبل وطنية تمزقهquot;، أكانت طائفية أو قبلية أو دينية أو لغوية أو عنصرية أو سواها، لكن هذا الإيمان بدأ بعد تجارب ما بعد الثورة مرحلة من الشك مشروعة.
لقد كشفت أحداث الأشهر الأخيرة أن انجازات عقود من الدولة الوطنية المستقلة قد تذهبها حماقة أسابيع هباء، و لا يقصد بالانجازات هنا تلك المادية المقدور على تعويضها على أي حال متى ما توفرت الإرادة، بل تلك الثقافية و النفسية و المعنوية التي تحتاج زمنا طويلا و جهدا خارقا لمعالجة التشوهات و الانحرافات العميقة التي لحقت بها، فالمجتمع عندما يفقد قدرته على صناعة أغلبية واضحة مؤمنة بالوحدة الوطنية فإنه يكون على حافة خراب و دمار و حروب أهلية و صراعات داخلية لا يملك أي عاقل القدرة على تقييم آثارها السلبية الممكنة.
و عندما تتوفر الظروف الملائمة لظهور الانقسام و انتعاشه في مجتمع ما، فإن مسألة اختراع quot;الطوائفquot; لن تكون مستحيلة، و هكذا فقد تحول التونسيون سريعا بفعل النقاش السياسي و الايديولوجي الدوغمائي غير المنضبط، إلى طائفة من quot;المؤمنينquot; و طائفة من quot;الكفرةquot; أو quot;الفساقquot; أو quot;المنافقينquot;، و إلى طائفة من quot;أنصار الشريعةquot; و طائفة من quot;أعدائهاquot;، و طائفة من quot;الوطنيينquot; و طائفة من quot;الخونةquot; أو quot;العملاءquot; أو quot;الفجرةquot;.
و ككل فضاء طائفي مشحون لم يتوصل قادة الطوائف فيه بعد إلى توقيع اتفاق للسلم الأهلي، فإن ظواهر الاصطفاف و التمترس و إعداد العدة للحروب الحقيقية و الافتراضية و حملات التشويه و السب و الحط من السمعة و انتهاك الأعراض و استباحة كرامة الخصوم و ترتيب الافتراءات و الأكاذيب، تصبح هي الطاغية و المحدد الأساسي لتوجهات التصريح و التلميح و القول و السلوك.
و تجتهد الطوائف التونسية الجديدة لتنظيم استعراضات القوة و تنفيذ المناورات على أرض الواقع، إرهابا للأخوة الأعداء و إمعانا في توسيع الهوة النفسية و الفكرية و السياسية بين الفرقاء، فإذا ما بدت الحكومة ضعيفة و هيبة الدولة على المحك و الحوار بين شركاء الحياة السياسة معدوم أو منحط، فإن ذلك لا يمكن إلا أن يشجع عامة المواطنين على مزيد من البحث عن انتماءات جديدة quot;أدنى من الوطنيةquot;، و ذلك من باب السعي على الأقل للانتصار على الخوف و حفظ النفس و توفير ما أمكن من الضمانات لمستقبل يظهر لغالبية التونسيين اليوم ضبابيا و غير مضمون العاقبة.
إن مصطلحات quot;القاعدةquot; و quot;السلفية الجهاديةquot; و quot;العروشquot; و quot;الجهاتquot; و quot;الجماعاتquot; و quot;الأحزابquot; و quot;الحركاتquot;، دارجة الاستعمال بكثافة هذه الأيام في الساحة السياسية و الإعلامية التونسية، قد تبدو في ظاهرها مجرد ألفاظ لتوصيف ظواهر طارئة، لكنها قد تبدو أيضا حمالة لمشاريع هدامة لمجتمع طالما كان واثقا من وحدته الوطنية، و ساعة تتزعزع البنى التحتية للوحدة الوطنية، فإن التنوع الفكري و السياسي المطلوب إثراؤه سيكون لعبا بالنار و إنذارا بموت المشروع الديمقراطي و حلم الحقوق و الحريات.
* كاتب و ناشط سياسي تونسي