يكابر قادة حكومة quot;الترويكاquot; التونسية وعلى رأسهم قادة حركة النهضة في الاعتراف بخطورة الأزمة التي يمر بها نظام الحكم المؤقت الذي أقاموه، فهو على الرغم من شرعيته الانتخابية بدا طيلة الأشهر الماضية، بائدا مترنحا فاشلا، لا يكاد يرفع رأسه من مشكلة حتى تطيح به مشكلة جديدة، ولا يكاد يغادر مواجهة مع طرف من الأطراف الفاعلة في حياتنا السياسية حتى يجد نفسه في مواجهة جديدة.
و خلال هذه الأشهر القليلة الماضية، صارعت هذه الحكومة الإتحاد العام التونسي للشغل ونقابة القضاة ومنظمات المجتمع المدني والهيئات الممثلة لرجال الأمن والديوانة والفنانين والمثقفين والسينمائيين والكتاب والطلبة ووسائل الإعلام، فضلا عن جل الأحزاب والحركات السياسية الفاعلة ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، العمومية منها والخاصة، وبعبارة أكثر تركيزا وإيجازا، فقد صارعت هذه الحكومة شرائح وفئات شعبية غير هينة.
و في ظرف وجيز تفجرت في وجه الحكومة قضايا كثيرة محرجة لعل أبرزها تمتيع آلاف من مجرمي الحق العام من العفو في إطار إجراءات غير شفافة، وبروز بؤر انفلات أمني مقلقة ومتواصلة أشعرت المواطنين بأن بلادهم على حافة فوضى عارمة، وتواصل موجات الاحتجاج الاجتماعي والاقتصادي والاعتصامات والإضرابات والمواجهات في جل جهات البلاد وخصوصا الداخلية منها، حيث اشتعلت جذوة الثورة، وأخيرا وليس آخرا القيام بعزل عشرات القضاة في إجراء وزاري أحادي حامت حول دوافعه شبهات كثيرة.
و قد زادت العلاقة المضطربة والمتناقضة بين ما سمي بquot;الرئاسات الثلاثةquot; من طين الحكم بلا، فقد هاجم بعض مستشاري رئيس الجمهورية أداء الحكومة بشراسة، ولم توفر الحكومة جهدا في الإنقاص من هيبة وقيمة رئاسة الجمهورية، من قبيل ما جرى فيما عرف بقضية quot;البغدادي المحموديquot; الذي أكد رئيس الحكومة أنه سيسلمه لسلطات بلاده دون حاجة إلى موافقة الرئيس، كما ظهر رئيس المجلس الوطني التأسيسي في غير موقف وأزمة تائها لا يدري أي خط يلتزم أو أي جهة يساند.
و لم تكن سيرة أكثر من وزير في حكومة السيد حمادي الجبالي عطرة، فقد كان حريا بثلاثة من بينهم على الأقل تقديم استقالة فورية غير أن تشبثهم بمناصبهم كان مستهجنا، فقد قام السيد وزير العدل بالعفو عن شقيقه الذي سجن بسبب قضية أخلاقية مثيرة للاشمئزاز، ولم يجد السيد وزير الصناعة في الحكم على ابنه الطالب بالسجن جراء اعتدائه جسديا على زميلته مبررا كافيا للمغادرة، تماما كما لم يرق جرم تسريب امتحانات الباكالوريا إلى الحد الذي يستدعي تحمل السيد وزير التربية لمسؤوليته البينة في حدوث هذه السابقة الخطيرة.
و تظل المسألة الأهم والأخطر في مشهد الأزمة السياسية التونسية، ذلك الشعور العميق المستقر لدى شرائح واسعة من الشعب التونسي، بأن شيئا من أهداف ثورتهم لم يتحقق، وبأن لا شيء تغير في ولاياتهم الداخلية التي ما يزال غالبية سكانها يشعرون بالحنق والغضب، وبأن مشاريع الحكومة التنموية المعلنة غير مقنعة لهم، لأنها في حقيقة الأمر ليست مشاريع حقيقية بقدر ما هي إصلاحات ترقيعية ومسكنات سياسية، وبأن الخدمات التي تقدمها مرافق الدولة عامة وإداراتها ومؤسساتها في تراجع مستمر، وبأن عجلة الاقتصاد الوطني لم تقدر على العودة إلى سالف دورانها.
و إن ما يدعو إلى الشعور بأن الأزمة ليست على أبواب الحل، الانقسام الحاد الذي تجلى في علاقات النخب الحاكمة والمعارضة على السواء، فقد تحول هذا الانقسام إلى صراع ايديولوجي وعقائدي لا مجرد صراع حزبي وسياسي، خصوصا بعد بروز quot;الظاهرة السلفية العنيفةquot;، فقد أضحى التونسيون فجأة مؤمنين وكفارا، وتقاة وفجرة، ووظنيين وخونة، وهو ما يعني أن الآليات الديمقراطية ستكون عاجزة عن تقديم الحل، وأن الخلاف أمسى حول الخيارات المجتمعية لا البرامج التنموية.
و قد عمق أداء المجلس الوطني التأسيسي الضعيف إلى حد الآن من أزمة الحكم، وهو ما برز جليا في عجز هذا المجلس عن كتابة مادة واحدة من الدستور الجديد على الرغم من اقترابه من السنة على تشكله، إضافة إلى المهاترات والمماحكات والمشاحنات والمشاكسات التي انجرف إليها عدد من النواب، في ابتعاد واضح عن القضايا الحقيقية المطروحة على الدولة والمجتمع، ومنح الحكومة فرصة لمزيد الاستهتار به والإمعان في تهميش دوره، وهو ما حدا بعدد من أعضائه إلى التوقيع على عريضة تدعو إلى إعادة الاعتبار له.
و بصرف النظر عما تظهره عمليات سبر الآراء والاستبيانات التي ما فتئت وسائل الإعلام تنشرها، فإن الثابت أن عدد الذين يثقون في مؤسسات الحكم في تراجع مستمر، وأن مشاعر اليأس والإحباط وانعدام الثقة في المستقبل والخوف من الفوضى والمجهول هي التي أصبحت غالبة على نفوس التونسيين، وأن جرحى الثورة وعائلاتهم والمثقفين والفنانين والأدباء والنقابيين ونشطاء المجتمع المدني والمعارضين والإعلاميين ليسوا راضين على الأوضاع السائدة في بلادهم وليسوا مقتنعين بأن هذه الحكومة ستنجح في تحقيق أهداف الثورة.
و على الحكومة خاصة، ومؤسسات الحكم بشكل عام، أن تتحلى بالشجاعة المطلوبة وأن تكف عن السير في طريق الإنكار والغرور والمكابرة والاعتماد المطلق على منطق الشرعية الانتخابية والأغلبية العددية داخل المجلس الوطني التأسيسي، وأن تدخل على الفور في حوار وطني حقيقي يجمع كافة الأطراف دون إقصاء أو تهميش على طاولة الحوار الصادق والفعلي، وأن تعمل على استعادة أجواء الوفاق الوطني لتحقيق أهداف الثورة ومسار العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي.
و على الحكومة أيضا، أن تكف عن اتخاذ أي قرارات أحادية من قبيل تعيين موالين لها في مواقع القيادة الإدارية والسعي إلى تمرير قوانين تشتم منها روائح تصفية الحسابات أو ضمان مكتسبات، وأن تدعو سريعا المجلس الوطني التأسيسي للانعقاد في جلسة استثنائية خارقة للبحث في حل عاجل فاعل للأزمة القائمة المستفحلة التي تهدد بانتكاس المشروع الوطني الديمقراطي، وتنذر لا قدر الله بعودة الديكتاتورية.
و أخيرا فإنني لا أرى في الأفق حلا ناجعا، إلا إقدام المجلس الوطني التأسيسي بمباركة وتأييد من حركة النهضة على مراجعة القانون المؤقت المنظم للسلطات العمومية، أو ما عرف بالدستور الصغير، والتخلي عن هذا النظام السياسي الهجين الذي عرف بquot;النظام المجلسيquot;، والاستعاضة عنه بنظام رئاسي مؤقت، يقود إلى انتخاب رئيس جديد مؤقت، يجمع بين رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة، ويمنح صلاحيات السلطة التنفيذية كاملة، ويفضل أن يكون من خارج دائرة الأحزاب جميعها، ويكون من ضمن أولوياته توفير الأجواء المناسبة لاستكمال كتابة الدستور وإنقاذ الاقتصاد الوطني وتحقيق الأمن، وذلك حتى تنظيم الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة على ضوء مقتضيات الدستور الجديد.
و إنني ممن يعتقد بأن إقدام القوى الوطنية على تعديل المسار والإقدام على اختيار رئيس قوي من نفسها، خير من أن تفرض عليها الأزمة المتفاقمة التي قادت إليها السياسات الحكومية العرجاء، ظهور رئيس قوي من خارجها سيحظى بتأييد غالبية المواطنين، ممن فقدوا كل ثقة في النخب السياسية، بعد ما رأوه طيلة الأشهر الماضية من مظاهر غير مشرفة وصراعات فئوية وحزبية أنانية وضيقة وتكالب على الكراسي والمواقع واقتسام كعكة الحكم وشهوة السلطة.
bull;كاتب وناشط سياسي