في أكثر من بلد عربي ما بعد الثورة، تفقد النخب السياسية والإعلامية والثقافية كل يوم الكثير من رصيدها المعنوي واحترامها لدى شعوبها، إذ انحدر المستوى الأخلاقي لصراعاتها إلى درجة وضيعة ومنحطة قد تكلف مشروع الانتقال الديمقراطي غاليا، وتفسح المجال من جديد أمام عودة الديكتاتورية بحجة أن هذه النخب لم تكن في مستوى المنتظر منها، وأنها فشلت جراء أنانيتها وعدم اتخاذها سقفا أو خطا أحمر لا تتجاوزه عند تفجر خلافاتها، في كسب تقدير وثقة مواطنيها.
و يعكس عالم الانترنت الافتراضي أو صفحات التواصل الاجتماعي كالفايس بوك وتوتير، حقيقة الأزمة الأخلاقية العميقة التي تعيشها النخب في بلدان الربيع العربي، فبعد أن كان هذا العالم مفر الثوار وعنوان الوحدة الوطنية والصمود في وجه الطغيان، أضحى ساحة للصراع المدمر وغير الأخلاقي بين أطراف الحياة السياسية والفكرية..ساحة لهتك الأعراض وابتكار المؤامرات وصنع الافتراءات، وساحة تبرر فيها الغاية الوسيلة بامتياز، لا فرق في ذلك بين إسلاميين وعلمانيين، ويساريين ويمينيين، فالكل يتبارى في التعذيب والسحل الالكتروني، والجميع لا يجد أي غضاضة في ممارسة أخس وأحط الأساليب بحجة الانتصار لمبدأ أو فكرة أو حزب أو طائفة.
و في بلادي التي طالما حلمت بالحرية والديمقراطية، أصبحت الحرب الالكترونية فريضة مقدسة لدى الحركات الدينية والماركسية والقومية والليبرالية على السواء، وفي انتظار ndash; لا قدر الله- أن يبادر كل حزب إلى تجهيز quot;ميليشيات مسلحةquot; لحماية الأفكار والمبادئ كما يزعم الزعماء، بادر الجميع إلى بناء quot;الميليشيات الالكترونيةquot; من كل حسب وقدرته، وإرسالها إلى جبهات القتال على الفايسبوك وتويتر وغيرها، لاغتيال quot;الإخوة الأعداءquot; وتحطيم معنوياتهم وزعزعة ثقتهم في أنفسهم وطردهم من ساحات النزال السياسي والفكري.
و خلافا للحروب الكلاسيكية حيث وصلت البشرية إلى قواعد أخلاقية وقوانين حروب تريد أن تكون إنسانية، فإن الحروب الالكترونية بين الأشقاء اللدودين في أوطان ما بعد الدكتاتوريين، لا تخضع لأية نواميس أو ضوابط، فكل شيء فيها مباح وحلال ومقبول، ولا حظر على استعمال أية أسلحة، أكانت جرثومية أو عنقودية أو كيمياوية أو حتى ذرية.
صور النخب في العالم الافتراضي، تظهر صراعا بين ظلاميين ورجعيين وأعداء للحداثة والتقدم والمرأة وحقوق الإنسان من جهة وكفرة وملاحدة وفساق وعملاء وخونة من جهة ثانية، ومعركة بين شياطين مردة ويواجهون أبالسة ملاعين، وكأن المطلوب هو أن يكون الساسة والمثقفون ملائكة ومعصومين، لا بشرا يمكن أن يعتورهم الضعف وتمتلئ قلوبهم في ذات الوقت بالخير والرحمة.
و من المفارقات أيضا، أن تكون رسالة بعض الحركات الدينية على الأرض مثلا، quot;الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرquot; والحث على مكارم الأخلاق، بينا لا تجد هذه الحركات غضاضة في توظيف مئات المهندسين والدفع لمئات المشرفين على المواقع الالكترونية، للذود عنها بكافة الوسائل الأخلاقية وغير الأخلاقية، بما في ذلك انتهاك الحرمات والخوض في الأعراض ونعت الخصوم السياسيين والفكريين بأبشع الصفات والتهم والنعوت، وكأن quot;الحقquot; يمكن أن يدافع عنه بquot;الباطلquot;، وأن quot;التدينquot; وquot;سوء الخلقquot; يمكن أن يجتمعان في جوف واحد.
فإذا ما أضيف إلى كل ذلك ما يشاهده الناس في البلاد العربية السعيدة بثوراتها، من شطحات ونوبات غضب هستيرية في البرامج التلفزيونية الحوارية التي تحولت في الغالب إلى حلبات لصراع الديكة وتبادل حملات التجريح والسباب والشتيمة، بل أحيانا لتوجيه الدعوات الصريحة للانتقام والسحل والتمثيل بالجثث في الشوارع على غرار الثورات البعثية والستالينية العتيدة، فإن ما بقي من بعض الاحترام لهذه النخب يضحي محل تساؤل حقيقي.
و إلى هذا المشهد الدرامي، تضغط على الناس الأزمات المعيشية وعدم نجاح الحكومات الانتقالية في إرسال أية مؤشرات إيجابية تطمئن مئات الآلاف من العاطلين عن العمل على قرب إيجاد حل لمشاكلهم، وتؤكد للفقراء والمحرومين أن خير الثورات قريب وأن الكرامة والعدالة الاجتماعية إلى جانب الحرية والديمقراطية ليست بالشيء المعجز تحقيقه والجمع بينه، فتزداد بذلك القتامة بدل البياض واليأس بدل الأمل في أفق التغيير.
و على هذا النحو فإننا نبدو كمن ينجرف تدريجيا نحو مجهول، وهو ما لن يستفيد منه سوى أولئك الذين يؤمنون بأن النظام الديمقراطي لم يخلق للعرب والمسلمين بل هو خصوصية غربية محضة، وإنه لمحزن ومؤسف بالتالي أن لا نعير للأخلاق قيمة في مسعانا إلى إنجاح المشروع الثوري، وأن لا تكون النخب مدركة لمسؤوليتها الأخلاقية أولا قبل مسؤوليتها السياسية، وأن لا يكون لديها استعداد لتعطي المثل في العمل بقيم التسامح والتعفف واحترام أدب الحوار والتزام قواعد التنافس الشريف والنزيه، وأن لا تكون كمن يقول ما لا يفعل إذ quot;كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلونquot;.