على الرغم من أنهم يزعمون كراهية الرئيس السابق زين العابدين بن علي، إلا أنهم في غاية الولع بالاستعارة من سيرته في الحكم و قاموسه السياسي، و هم في غاية الإصرار على النسج على منواله في بناء العلاقة بين القيادة و القاعدة و الحكم و المعارضة، مع بعض التعديلات السطحية الخفيفة التي تقتضيها ضرورات الثورة و الأخذ بخاطر بعض السذج من الدهماء و العامة..
تسليم رئيس الوزراء الليبي البغدادي المحمودي ذات يوم أحد (الإجازة الأسبوعية) في غفلة من الناس و وسائل الإعلام و دون إخبار رئيس الجمهورية، دليل آخر يضاف إلى سلسلة أدلة، فقد كان للتجمع الدستوري الديمقراطي لما كان بالأمس في الحكم ديكورا quot;ديكورا ديمقراطياquot; يتمثل في عدد من الأحزاب المعترف بها، لا يتكلف عناء إخبارها بشيء، و تتكفل هي دون أوامر مسبقة بالدفاع عن قرارات الحكومة، و ما الموقف الذي بدا عليه شريكا quot;النهضةquot; في الحكم أي quot;المؤتمرquot; وquot;التكتلquot; بمختلف اليوم كثيرا، إذ لم يخبرهما أحد، لكنهما قاما بالواجب و دافعا عن quot;الفضيحةquot;.
منذ أشهر، و تحديدا منذ تصديهم لسدة الحكم، لم يكف القوم عن تقسيم المشهد السياسي إلى quot;حكومةquot; تمثل quot;الثورةquot; و quot;معارضةquot; تمثل quot;الفلولquot;، فإذا لم تكن مع الحكومة من داخلها أو من خارجها فإنك بالضرورة من الفلول و أزلام النظام السابق و سجلك الشخصي مليء بالخيانات و المؤامرات و كل ما هو دنيء، حتى و إن كنت شريك نضال و صقرا من صقور معارضة الرئيس بن علي السابقة.
إن أحمد نجيب الشابي الذي أمضى عقودا من حياته السياسية مدافعا عن الإسلاميين و شريكا لهم حتى كناه رفاقه بquot;نجيب اللهquot;، هو اليوم quot;قمة في الفلولquot;، و الباجي قايد السبسي الذي كان في نظرهم إلى أسابيع خلت منقذ البلاد، نظم انتخابات نزيهة و سلمهم الحكم و كان مرشحهم الأثير إلى رئاسة الدولة، عاد اليوم في مقالاتهم و خطبهم quot;زعيم عصابة من المجرمينquot; و quot;قائدا للفلولquot;، و كذا حال المعارضين جميعا، بما في ذلك مجموعة نواب المجلس الوطني التأسيسي، ممن طالبوا بإدراج قضية البغدادي المحمودي ضمن جدول أعمال هيئتهم، تحولوا في نظر الحكام الجدد و أنصارهم إلى quot;فلول أبناء فلولquot;.
و بالأمس غير البعيد عاشت تونس أكثر من عقدين على وقع التقسيم الثنائي نفسه، quot;التحول المباركquot; و quot;التغييرquot; من جانب، و أعداؤه الخونة و العملاء و بيادق السفارات الأجنبية و quot;الخوانجيةquot; من جانب آخر، و لم نذكر أن معارضا واحدا لنظام الرئيس بن علي quot;طلع شريفquot;، فجميعهم بعد التحقيق يظهرون quot;جواسيسquot; أو quot;تجار عملةquot; أو quot;زناةquot; أو حتى quot;لوطيينquot;، و اليوم نتابع بكل دهشة كيف يجري اغتيال المعارضين معنويا و سياسيا و محاولة تصفية بلا رحمة أو شفقة أو رادع من دين أو عقل، بأن تظهرهم quot;الميليشيات الالكترونية المواليةquot; و quot;أبواق الدعاية الحكوميةquot; في صورة غير بعيدة عن تلك الصورة التي طالما عمل النظام السابق على تكريسها لمناوئيه، حتى وصل الأمر حد إهدار الدم و السحل و أشياء أخرى يندى لها الجبين..
و إن أخطر ما في موضوع الفلول هذا، أن يكون بداية لحركة تزوير تاريخ الثورة، ففي تونس يعرف الجميع أنها كانت ثورة بلا رأس أو قيادة أو برنامج، و أن الثوار الذين أسقطوا بن علي لم يشكلوا quot;حكومة ثورةquot; أو quot;حكومة ثوريةquot;، و أن الثورة تحولت بفعل مجموعة من الأحداث المتعاقبة إلى ما يشبه التغيير السلمي للسلطة أفضى إلى انتخابات أفضت بدورها إلى تشكيل حكومة، فالحكومة الحالية ليست تماما كما يزعم أصحابها quot;حكومة الثورةquot; إنما هي quot;حكومة منتخبةquot;، و ليس معارضوها quot;معارضة الثورةquot; كما يزعم أهل الحكم، و لا هم فلول أبدا، إنما هم شركاء وطن و نضال، بل قادته إن قصر نظر البعض ممن أعماهم بريق السلطة و دوختهم كراسي الوزارة..
لقد بدأ البعض فعلا بفبركة التاريخ على مقاس سلطانهم، و كذبوا الكذبة و سيصدقونها بأنهم كان ثوارا، بل قادة للثوار، و بدأوا يحيكون قصصا عن روابط مزعومة بين تحركاتهم المعارضة و ثورة 17 ديسمبر 2010، و يقدسون تضحياتهم إلى حد اعتبارها وقود تلك الثورة، التي ما تزال الذاكرة الحية تؤكد أنها ثورة شباب لم يكن لهم بالعمل الحزبي أو الأحزاب و الجماعات صلة، ناهيك أن تكون الثورة إسلامية دينية، و لعل هؤلاء لن يخجلوا في تدريس الناشئة قريبا هذه الرواية المزورة من خلال فرضها على المناهج التعليمية الرسمية..
إن هؤلاء لم يترددوا في تعيين الأقارب و الموالين منذ اليوم الأول في مواقع السلطة، في خطوة لم يتجرأ الرئيس السابق على عتو سلطانه في فعلها في أيامه الأولى، و لم يترددوا في صناعة quot;ديكور ديمقراطيquot; قسم الأحزاب إلى quot;موالاة خاضعةquot; و quot;معارضة خائنةquot;، و لم يترددوا في اتهام كل من اختلف في الأمر معهم بالانتماء إلى معسكر quot;الثورة المضادةquot; في حين نصبوا أنفسهم على رأس معسكر quot;الثورةquot;.
و تماما كما كان بن علي مولعا بتأليف الأعداء و تحويل الأصدقاء الممكنين سريعا إلى خصوم سياسيين، يعمل أهل quot;النهضةquot; في تونس الحالية على استعداء أكبر قدر من قوى البلاد الحية، لا المعارضين السياسيين فحسب، بل الإعلاميين و النقابيين و المثقفين و الفنانين و سائر العقلاء ممن يطالب بشراكة حقيقية في إدارة شأن الوطن، بعيدا عن المغالطات quot;الديكوريةquot; و المزايدات الثورية و العنتريات السلطوية..
و يفترض بهؤلاء القوم بعد أشهر من الحكم، أن يعلموا أن السلطة ليست كما كانوا يتخيلون أيام كانوا في المعارضة، و أن تحدياتها جسام لن يكون بمقدورهم بمفردهم التصدي لها..
لقد كانوا يتهمون الرئيس بن علي بموالاة الغرب و إسرائيل، و هم اليوم متهمون بالأمر ذاته، فلا قطعوا علاقاتهم مع الولايات المتحدة مثلا و لا قبلوا تجريم التطبيع، و قد كانوا بالأمس يتهمون الرئيس بن علي بالعجز عن تحقيق نسب كافية من التنمية، و هم إلى اليوم و بالأرقام أعجز منه بأشواط عن تحقيق مجرد نسب مماثلة، كما كانوا يتهمونه بالتمكين للأقارب و بالفساد، و هم اليوم في مرمى الحجر نفسه و نسب الفساد و الرشوة و المحسوبية بالأرقام زادت زمن الحكم الرشيد المزعوم و لم تنقص درجة واحدة..
لعلهم سيعمدون إلى اختلاق المبررات دائما، و لن يكفوا عن تخوين الخصوم السياسيين، و لن ينصتوا لأصوات المعتدلين داخلهم، بل سيستسلمون دائما لإرادة المتشددين، تماما كما كان الرئيس بن علي يفعل عندما أقفل على نفسه الدائرة و أحاطها بمستشارين لا يشيرون عليه إلا بالعصا..ذلك تقدير أرجو صادقا أن تكذبني فيه الأيام، و قد كان لي بعض الأصدقاء ممن هم اليوم في سدة الحكم، لم أعرف عنهم موهبة أو تفوقا أو قدرة على التجديد و الابتكار و الإدارة الجيدة، و كانوا في غالب الأمر من المطبلين لقيادتهم دائما و من الطلبة الفاشلين عامة، لربما تحولوا اليوم إلى سياسيين جيدين و رجال دولة ناجحين..لا أحد يعلم، إن الله قادر على كل شيء، و هو أعلم العالمين.

* كاتب و ناشط سياسي