ابتلي المثقف في المنطقة العربية بمشكلة الصراع الدائر اليوم ما بين ايران وتركيا. والغريب في الامر ان هذا الصراع قد بدا يتسلح بالدور المهم الذي تمارسه قوى السلطة العربية في محاولة تسطيح الفكر الجماهيري عبر تقسيم المثقفين الى فئات، فمنهم من صنف على انه ايراني الهوى ومنهم من صنف على انه موالٍ لتركيا. وما بين التصنيفين وقعت الكارثة بحق اصحاب الاقلام الحرة التي ارادت العمل خارج ماهو مرسوم من قبل هذه المؤسسات، كما ارادت ان تكون علاج الصدمة الذي يخرج الجماهير من غيبوبتها الطويلة التي ادخلت اليها عنوة بفعل ممارسات سلطوية معدة لهذا الغرض.

حاول كثير من المنصفين الكتابة في مجال الحركات الاحتجاجية التي جرت في اكثر من دولة عربية وبالذات منها مع دولة البحرين و السعودية على وجه الدقة. حيث اراد هؤلاء التوصل الى رؤى تحليلية صادقة للبحث عن اسباب ماحصل وكيفية علاجه بالطريقة التي تسمح للاصلاح بالولوج الى المجتمع الخليجي. وهو ماقاد العديد من الجهات الاخرى المعارضة لمن أيد تحليليا وفكريا هذه الحركات، الى توجيه الاتهام لها بانها من مؤيدي المشروع الايراني في المنطقة العربية والذي عادة ما يوصف بالمشروع الصفوي.

وهنا لعبت وسائل الاعلام المملوكة لهذه الدول دورا بارزا في تحشيد العديد من الشحصيات التي استخدمت من اجل خداع الراي العام العربي بمصداقية هذا الاتهام. الغريب هنا ان ما ركزت عليه العديد من هذه الوسائل لم ياتي في جوهره لمناقشة تلك الحركات، بل في اقتناص اي فرصة ممكنة لتشويهها ووصف المشاركين فيها بعملاء ايران. وهو ما رسخ فكرة التخوين بحق طيف واسع في البنية السكانية للدول العربية، وجعلها متهمة وغير مرغوب في الاستماع لرؤاها او مطالبها، لا بل تصوير من اراد الوقوف بالضد من الحريق المشتعل اليوم في سوريا بانه موال لبشار الاسد ومناصرا للمشروع الايراني !!. وكل هذا الامر جاء وفقا لسياسات الاعلام التي اجادت في موضوع التلاعب بعقلية الفرد العربي وحولته الى عقلية نقلية تستلم الصورة والخبر والتعليق والتحليل، كي تجد على ارض الواقع ردة الفعل التي ارادتها من توجيه هذا الخطاب في مؤسساتها الاعلامية. وهي بالاساس مؤسسات ضخمة وذات امكانيات كبيرة، استغل اغبلها لتمرير الخطاب السياسي للقوى الحاكمة وكذلك لتشويه الحقيقة كيفما ارادت هذه القوى خدمة لمصالحها وتوجهاتها.

د. دياري صالح مجيد

هذه السياسة في التعاطي مع الشأن الثقافي في محاور الحركات الاحتجاجية العربية لم تتوقف عملية التشويه فيها عند حدود هذه الدور، بل تجاوزها الموضوع عند البعض الاخر لوصف من ايد هذه الحركات وناصرها بطرق مختلفة، على انه مؤيد للمشروع التركي ndash; الخليجي في المنطقة. وهو مشروع يسعى الى تعميم النموذج الاخواني للحكم في اكثر من دولة عربية، بهدف بسط مزيد من السيطرة والنفوذ لمواجهة الدور الايراني. وعندها اصبح من ينتمي الى هذا التقسيم مرحب بهم بشكل اكبر ويشحذ خطابهم ورؤاهم بالعديد من العناصر التي تساعد على انتشاره ضمن اوسع نطاق ممكن بين الجماهير، طالما انه يساعد في تأييد الرؤية الرسمية للقوى المهيمنة والمتحكمة ماليا و دينيا بمآل هذه الحركات.

لقد حاولت العديد من هذه القوى العمل على الايقاع باكبر عدد ممكن من المثقفين في شرك هذه التهمة و اشغالهم فيما بينهم بصراع فكري لا فائدة منه على صعيد المجتمع وحياته المأزومة بالعديد من المشكلات التي تتجاوز هذا التصنيف. وهو ما جعل البعض يظن خطأ بان كل مثقفي هذه الدول مؤيدين لهذه الرؤية ومناصرين لهذا التوجه، وهو ذات الافتراض الخاطيء الذي جعل البعض يتفاجأ بقراءة مقال او الاستماع الى رأي مناهض لهذه القوى ولهذا المسار في التصنيف السياسي للثقافة. وعنصر المفاجأة في المعتاد كان يأتي من معرفة هوية صاحب هذا المقال او الراي الذي قد ينتمي الى احدى الدول الخليجية. ويمكن هنا ان نستشهد بما جاء في العديد من المقالات التي كتبت من قبل مثقفين اماراتيين حاولوا فضح السياسات التي تمارسها وسائل اعلام خليجية بالضد من استقرار بلدهم خدمة لاغراض واهداف معروفة.

ربما يتساءل المرء لماذا يجري مثل هذا التصنيف للمثقف و للمواطن في العالم العربي ؟. الاجابة عن هذا التساؤل الجدلي تتطلب منا الخوض في مدخلات البنية السلطوية العربية وطريقة تفكيرها واليات عملها السياسي. وهي قضايا تحتاج الى بحث مطول يتجاوز سطور هذه المقالة. لكن ان حاولنا ان نصدق بان من كتب بالضد من توجهات القوى السلطوية الخليجية، بانه ايراني الهوى وبانه مؤيد للمشروع الايراني في المنطقة العربية. افلا يعني ذلك اعطاء الضوء الاخضر لقتل الفكر المضاد المختلف مع توجهات هذه القوى، كي يبقى هنالك نمط واحد من الكتابة، وهو كتابة الخضوع و التاييد و التهليل لكل مايصدر عن هذه القوى حتى ان كان فيه قتلا وتغييباً متعمدين للقوى الشعبية والجماهيرية الواسعة في العالم العربي؟

تشير الكثير من الدلائل على ان هذه القوى تعمل من الان على الاستعداد للمرحلة القادمة من الاحتجاجات الشعبية في العالم العربي، وذلك بغض النظر عن الطبيعة التي سيستقر عليها المشهد السوري. وهي فترة اشارت العديد من الدراسات بانها ستشهد تمدد مايعرف بالربيع العربي باتجاهات جديدة نحو الخليج. حيث ستطالب القوى الجماهيرية هناك في العديد من الدول بمزيد من الاصلاحات وربما ستطالب بالتغيير الذي شهدته دول اخرى في المنطقة العربية. عندها لن يكون من السهل على هذه القوى الوقوف بوجه هذه الحركات المندفعة بقوة نحو تحقيق مطالبها، التي اكدت في الكثير من المناسبات على انها تتجاوز سقف المسموح به لدى هذه القوى.

هنا يمكن تفهم الاستعداد الذي تقوم به هذه القوى باتجاه اضفاء البعد الايراني عل كل الجماهير والمثقفين المناهضين لسياساتها والمطالبين بالاصلاح في مؤسساتها. على اعتبار ان ذلك سيكون الطريقة المثلى لشيطنة ايران ولشيطنة دعاة التغيير في هذه الدول، لذا فان لغة التخوين التي تستهدف اليوم من يمارس النقد تجاه هذه القوى جعلت اصحابها في خانة من ينظر لهم نظرة التشكيك والحذر. وهي خطوة استباقية اعتمدتها تلك القوى بهدف اجهاض اي حركة احتجاجية تُنشط القوى المجتمعية في تلك الدول، وهو ماقد يقود البعض الى وصف امثال هؤلاء بانهم العملاء الجدد للاستعمار في المنطقة، دون ان نعرف ماهية هذا الاستعمار ومتى نطلق على فئة ما بانها استعمارية او عميلة للاستعمار. فهل نطلق هذه العبارة على الجماهير بما فيها المثقف والانسان البسيط حين يكون مناهضا لمشروع الدولة الاستبدادية ؟ ونتوقف عن تعميمه واستخدامه عندما تكون القوى الامبريالية داعمة للحاكم ومؤيدة لسياساته القمعية والتوسعية؟

ماهو مؤكد في ظل هذه الرؤية ان مثل هذا التصنيف للمثقف وللجماهير على حد سواء يأتي بالدرجة الاولى في ظل ادراك هذه القوى لعدم قدرتها مستقبلا على التحكم بالراي العام اذا ما استمر وجود راي معارض لسياساتها. واذا ما استمر هذا الراي في ايصال رسالته الى مساحة اوسع من الجمهور المتلقي لخطابها، لذا لجات العديد من هذه القوى وعبر وسائلها الاعلامية الى التضييق على امثال هؤلاء واتهامهم بالتبعية للمشروع الايراني في المنطقة. في ظل هذه الازمة نحن بحاجة كجماهير عامة الى اعادة النظر في طريقة تعاطينا مع الخطاب السلطوي الذي تبثه وسائل الاعلام الممولة والمملوكة للسلطة. علينا ان نمارس النقد البناء والفكر البناء، كي لا نقع فريسة لما يروجه خطاب هذه المؤسسات من افكار تقودنا الى التحول الى مجرد بيادق تموت على رقعة الشطرنج من اجل الحاكم وابنائه وعائلته. كما على مثل هذه الحكومات ان تدرك بان التغيير الذي دعمته في الدول العربية الاخرى لابد وسيطرق ابوابها، فبدلا من الاستعداد لمثل هذا الامر عبر الحاق الجماهير والمثقفين باتجاه المحور الايراني، عليهم التفكير جديا بكيفية الاستماع الى هؤلاء وعدم تجاوز اصواتهم ورؤاهم. عليهم ان لا يؤمنوا بانهم الحق المطلق وبانهم الاخلاص المطلق، بل علينا جميعا ان نؤمن باننا شركاء في الوطن وبان استقراره وتنميته وتطوره مسؤوليتنا المشتركة جميعا. وهو امر لايتم الا بانهاء لغة التخوين لمن يعارض تيار السلطات الحاكمة ويفسح المجال امام الجمهور، كي يكون هو الحكم في الاختيار لمن يصغي لاي من الطرفين، على اعتبار انه جمهور واع لم يعد بعد بحاجة الى الرعاية الابوية التي تحاول ان تصوره بانه لازال في فترة المراهقة وليس بمقدوره الاختيار بشكل صائب بين تيارات الفكر والسياسة المتعددة.

في نهاية هذا المقال اذكر برأي للكاتب جورج اورويل يصف ما يجري من تخوين بحق المثقف و عموم الجمهور الذي يختلف فكريا مع مايجري من تحليل سلطوي عام للشان السياسي في المنطقة العربية ويعود بنا مجددا الى فكرة تحريم التفكير والاختلاف وتحوله الى جريمة في عالم اليوم، حين خلص في روايته الشهيرة ( 1984 ) الى ان التفكير اصبح جريمة يعاقب عليها المرء وبأن هنالك اليوم شرطة خاصة اسمها شرطة التفكير تتعقب كل من يرتكب هذه الجريمة التي تهدد سلطة الاخ الاكبر او القوى الحاكمة وتضعه في زاوية الخائنين، كي تسمح بذلك للقتلة والمجرمين استباحة دم هؤلاء متى ما ارادوا، وهي قضية تشترك فيها جميع الحكومات التسلطية التي لا ترغب في شيوع لغة النقد في اوساط المجتمعات التي تهيمن عليها. لكن اورويل يعلن دائما رفضه واحتجاجه على من يمارسون هذا الفعل الذي يدخلهم في صراع مع الجماهير التي ستحقق الانتصار بالنهاية في حال امتنع الاخ الاكبر عن الاستماع اليهم.

كاتب واكاديمي عراقي
[email protected]