تذكرنى الأوضاع حاليا فى ايران بما حصل فى العراق منذ الهجوم على ايران ودخول العراق فى حرب استنزاف معها استمرت 8 سنوات راح ضحيتها مئات الألوف من الطرفين وخلفت أعدادا لا تحصى من الجرحى والمعوقين والأرامل واليتامى، ثم قام صدام حسين وغزا الكويت فى 2 آب/اغسطس 1990، فمهد بذلك الطريق للحضور المكثف للجيوش الأمريكية وحلفائها. ثم فرضت الولايات المتحدة حصارا اقتصاديا مدمرا على العراق وبدأ العد التنازلي لانهيار الحكم البعثي الفاشي الذى سيطر على العراق منذ منتصف عام 1968 وانهارت قيمة الدينار العراقي، فبعد أن كان الدينار يعادل 3 دولارات أمريكية أصبح الدولار الأمريكي يعادل 3-5 آلاف دينار عراقي. وتبين فيما بعد أن الحصار كان تمهيدا للهجوم على العراق وتدمير جيشه وتدمير الجسور والمعامل الحربية ومحطات توليد الكهرباء وتصفية الماء، ونتج عن ذلك دمار هائل لبنية العراق التحتية، وشح الماء والغذاء والكهرباء وانتشرت الأمراض والأوبئة وارتفعت نسبة وفيات الاطفال، فكانت كارثة فاقت كل الكوارث. وأوقف المهاجمون القتال لا رحمة بشعب العراق ولكن لتعذيبه وإضعافه بالحصار، ومن ثم اكتسحوا البلد الخائر القوى فى نيسان 2003 دون مقاومة تذكر، أفلا تتعظ ايران بذلك؟

بعد انتخابه من قبل البرلمان الايراني رئيسا للوزراء فى نهاية نيسان/ابريل عام 1951 قام الدكتور محمد مصدق بتأميم النفط الايراني فوجه بذلك ضربة قوية للمصالح البريطانية والأمريكية فى المنطقة. قادت بريطانيا حصارا دوليا على النفط الايراني وأعاقت وصوله الى الأسواق العالمية مما أدى الى تردى الوضع الاقتصادي والمعاشي فى ايران وفتح الباب واسعا أمام عودة الشاه الى عرش الطاووس والانقلاب على مصدق فى 19 آب/اغسطس 1953. كان مصدق وطنيا مخلصا لشعبه ووطنه، فكان يتضرع للمجتمع الدولي لمساعدة بلاده فى محنتها، حتى أن دموعه سالت عندما كان يخطب فى الأمم المتحدة وهو يشرح للوفود عن الظلم الذى يعانيه شعبه من المستعمرين آملا فى ان يقفوا الى جانبه ناسيا أن العاطفة شيء والسياسة والمصالح شيء آخر. وسرعان ما ظهرت فى الأسواق الأمريكية مناديل أطلقوا عليها اسم (مناديل مصدق الباكية) وجعلوا منه مادة للتهكم والسخرية. لقد كان شاه ايران خادما مطيعا لبريطانيا وحريصا على علاقاته مع الغرب ومع اسرائيل التى اعترف بها حالما أعلن عن ولادتها فى عام 1948 ضامنا بذلك دوام تسلطه على الشعب الايراني المسحوق.

عاطف العزي

وفى تشرين الثاني/اكتوبر 1971 احتفل الشاه بذكرى مرور 2500 عام على قيام الامبراطورية الفارسية ودامت الاحتفالات ثلاثة أيام كلفت الخزينة مئة مليون دولار (ما يعادل ملياري دولار فى الوقت الحاضر) بينما كانت الشعوب الايرانية تعانى العوز والفقر الشديد. ومع ارتفاع اسعار النفط وزيادة الانتاج قام الشاه باستيراد الأسلحة الحديثة بمئات الملايين من الدولارات من الولايات المتحدة، وجلب مئات الخبراء الأمريكان لتدريب جنوده عليها، مما زاد فى نقمة الايرانيين عليه. وبلغ به الاستهتار الى درجة أنه (أهدى) الحكومة البريطانية نصف مليار دولار لمساعدتها على العجز التى كانت تعانى منه، بدلا من مساعدة الفقراء من ابناء شعبه.

ومثل بقية الشعوب عندما تُبتلى بحكام طغاة لجأ الايرانيون الى الدين لعلهم يحصلون على عون من السماء. واغتنم رجال الدين الفرصة وراحوا يحرضون الناس على المقاومة والعمل على اسقاط حكم الشاه، وتم لهم ذلك فى عام 1979 عندما نجح السيد الخميني فى الاطاحة بالشاه، وسيطر رجال الدين على مقدرات البلد و سارعوا بدعوة شعوب المنطقة وخاصة الدول العربية الى الثورة على زعمائهم وإقامة جمهوريات اسلامية على غرار جمهوريتهم الجديدة. تحرشوا بالعراق وحصلت بعض المناوشات الحدودية بين الطرفين، وبدلا من اللجوء الى حل دبلوماسي عن طريق الأمم المتحدة واللجوء الى الوساطات، قام صدام حسين باعلان الحرب عليهم وبدأ قصف الطائرات والهجمات البرية واضطرت القوات الايرانية التى ضعضعتها الثورة الى الانسحاب والتخلى عن بعض المناطق الحدودية، ولكنها عادت بعد سنتين واسترجعت ما فقدته وأكثر. وطلب العراق ايقاف القتال فرفض الخميني واستمر القتال ست سنوات أخرى خسر فيها البلدان مئات الآلاف من الأرواح ودُمرت المنشئات العامة والخاصة، وبسبب انحياز الغرب ومعظم الدول العربية الى جانب صدام حسين إضافة الى الخسائر الفادحة فى الأرواح اضطر الخميني الى قبول وقف اطلاق النار وكأنه يتجرع السم كما قال هو فى وقتها. إدعى كل من الطرفين بالنصر، ولكن الواضح أن كلا البلدين قد خسرا خسرانا مبينا.

يقول بعض المحللين لو لم يهاجم صدام ايران لسقط الحكم الجديد فيها خلال سنتين من قيامه وحل محله حكما علمانيا، ولكن الحرب وحّدت الايرانيين للدفاع عن بلدهم واختفت المعارضة تاركة رجال الدين يسيطرون على كل مرافق الحياة فى البلد. حاول الشيخ المعتدل (هاشمي رفسنجاني) عند تسلمه الرئاسة فى آب/اغسطس 1989 أن يصلح الأمور ونجح بعض الشيء فى التقرب الى الغرب وقلل كثيرا من سيطرة الدولة على الاقتصاد. بعده إنتُخب السيد محمد خاتمي سنة 1997 وبدأ باصلاحات سياسية واسعة، وسعى حثيثا من أجل إحلال الديموقراطية فى البلد وتطبيع العلاقات مع الغرب. وأعيد انتخابه سنة 2001 بتأييد شعبي قوي بالرغم من معارضة المحافظين الشديدة له. بعده إنتُخب الدكتور أحمدي نجاد رئيسا فى 3 آب/اغسطس عام 2005 بعد تغلبه على منافسه رفسنجاني، وأعيد انتخابه مرة اخرى عام 2009. أحمدى نجاد وبالرغم من تواضعه وإخلاصه لبلده فإن تمسكه المفرط بالغيبيات واعتقاده أن الله تعالى الى جانبه قد جلب فى النهاية كارثة كبرى لإيران بسبب اصرار حكومته على المضي بتخصيب اليورانيوم الذى يعارضه الغرب واسرائيل بشدة.

بدأ البرنامج النووي الايراني فى الخمسينات من القرن الماضي بمساعدة الولايات المتحدة وحكومات اوروبا الغربية، واستمر التعاون حتى قيام ثورة الخميني عام 1979 حيث توقف ثم أعيد تشغيله عام 1985 مع شيء من المساعدة الفرنسية. وتصر ايران على أن برنامجهم هو فقط لغرض الحصول على الطاقة الكهربائية و الأغراض المدنية، وهذا لا يبدو منطقيا فان المفاعلات كلفت ايران مليارات الدولارات بينما هى تملك مخزونا هائلا من النفط والغاز الطبيعي الذى يكفيها الى ما بعد نهاية القرن الحالي، مما يبعث على الاعتقاد بأن ايران ماضية فى سعيها لانتاج أسلحة نووية. يقول البعض ان من حق ايران ان تصنع اسلحة نووية أسوة بإسرائيل التى صنّعت أكثر من 200 رأس نووي، قد يكون هذا صحيحا، ولكن الضعيف لا يحصل على حقه إلا بموافقة الأقوياء، فأين قوة ايران مقابل قوة اسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا مجتمعين؟ المنطق السليم يفرض على حكام ايران الرضوخ للأمر الواقع وحل هذه المشكلة بالتفاهم مع أمريكا، وبعكس ذلك فهم يعرضون بلدهم لخطر ماحق. ولنفرض جدلا أن ايران صنعت القنبلة النووية، فضد من ستستعملها؟ إذا استعملتها مع اسرائيل فسوف تتلقى عشرات مثلها تدمر ايران كليا، وسيشمل العديد من الدول المجاورة ومنها العراق.

قبيل الحرب العالمية الأولى كان يطلق على منطقة البلقان -جنوب شرق اوروبا- اسم (برميل البارود)، وفعلا تسببت النزاعات بين تلك الدويلات قيام الحرب العالمية الأولى، واليوم حلت محلها منطقة الشرق الأوسط لتصبح برميل البارود الجديد الذى قد ينفجر بشرارة من شرارات النزاعات الحالية فى المنطقة مما يؤدى فى النهاية الى حرب عالمية ثالثة لا تبقى ولا تذر.

العراق الذى هو أضعف دولة فى المنطقة عسكريا ليس بمقدوره عمل شيء لانشغال أهله بالخصومات الطائفية بأنواعها، يقودهم سياسيون ورجال دين يتنازعون على المناصب من أجل مصالحهم الخاصة. النواب الذين انتخبناهم يطمح أكثريتهم الى الحصول على أعلى الرواتب والمخصصات والحصول على أجود الأراضي لبناء القصور، ويزاحمون الناس حتى على إداء فريضة الحج، ولا يحدث نِصاب فى البرلمان إلا اذا كانت لهم فيه مصالح شخصية. العراق محاصر بالأعداء والطامعين من جهاته الأربع، من الداخل يهدد الكرد فى الشمال، والسنة فى الغرب، والشيعة فى الجنوب بالانفصال ويزداد بينهم شعور الكراهية يوما بعد يوم. والضجة التى حدثت فى هذه الأيام بسبب إقدام الحكومة على شراء الأسلحة لحماية البلاد لامبرر حقيقي لها. فالكورد يقولون انها ستستعمل ضدهم وأرسلوا مندوبا عنهم الى الكويت يحرضهم على عدم الموافقة على اخراج العراق من البند السابع لئلا يصبح قويا فيهاجم الكويت والأكراد !. ويقوم نائب معمم سليط اللسان باتهام الحكومة بشراء أسلحة فاسدة !، ولا أدرى فى اي حوزة درس حضرته عن الأسلحة ليميز الصالحة من الفاسدة منها، وهو يعرف جيدا أن الكلمة الأخيرة تعود الى البرلمان في الموافقة على شراء تلك الأسلحة من عدمه. ومعمم آخر لا يترك فرصة تمر إلا ويطالب الحكومة بتوزيع نسبة من عوائد النفط على (المؤمنين)، ولا أدرى عما اذا كان قد درس شيئا عن الاقتصاد فى قم، فالظاهر انه لا يعرف أن ذلك سيؤدى ndash;إذا ما حصل- الى ارتفاع الأسعار وزيادة التضخم المالي مما سيعود بالضرر الكبير على المواطنين.

بقاء العراق على وضعه المأساوي الحالي يشكل نكبة كبرى لا أجد حلا لها إلا بتشكيل حكومة أغلبية تحل محل ما يسمى بـ(حكومة الشراكة الوطنية) التى ثبت فشلها بسبب انعكاس الخلافات الشديدة بين رؤساء الكتل الذين يكره بعضهم البعض الآخر ويحقد عليه، ولم ولن يتفقوا فى يوم من الأيام، فالوزير من الكتلة العراقية يتبع تعليمات الدكتور علاوي، والوزير من التيار الصدري يتبع تعليمات سماحة السيد الصدر، والوزير من (اقليم كردستان) يتبع السيد مسعود البارزاني، والوزير من دولة القانون يتبع السيد المالكي، وهكذا.. فكيف سيخرج قرار موحد من مجلس وزراء معظمهم يراعون مصلحة كتلهم بدلا من مصلحة شعبهم؟ أفيقوا من أحلامكم أيها السادة وتخلوا عن أنانيتكم، وارحموا هذا الشعب المسكين المبتلى بكم.
عاطف العزي