من أهم التحديات أمام الساسةِ، والسياسة إنجازُ آليةٍ تعكسُ إرادةَ الشعبِّ الحقيقية، ولا يزالُ هذا المسعى مشكوكا في تحققه، حتى في عقر الديمقراطية، أمريكا، مع أنَّ نظامَها السياسي يتيح للناخبين اختيارَ ممثليهم بحرية، لكن يبقى السؤال عن مدى تحقق هذا الاختيار الحر، بعيدا عن المؤثرات الإعلامية التي قد تَستلِبُ رأيَ الناخب، وعن تأثير رأس المال المباشر، أو غير المباشر في صنع الزعماء، والترويج لهم...

فإذا كان تَحقُّقُ إرادة الشعبِ مُشكَّكا فيها هناك؛ فكيف يكونُ الحال هنا، عربيا؟

وعلى الرغم من أن هذا زمن الشعوب العربية، كما يُظن، وزمن ثوراتها التي أطاحت نُظما جبارة، وفرضت التغيير؛ بالخروج الشعبي الطاغي إلى الشارع...لكن الذي حدث، ويحدث هو حالات تصالحية، أكثر منها استجابة لإرادة الشعب التي لم تتبلور بعد، ولم تتخلَقْ؛ فضلا عن حالات الالتفاف على ما تقاطعت عليه الشعوب، من مطالب تَظلُّميَّة مشتركة، بالتدجين، والتجيير، والتسويف...


وعلى الرغم من ارتفاع درجة التسييس في الشعوب العربية ، وكسرها حاجز الخوف، واستعادتها الثقة بقدرتها على التغيير، إلا أنها لا تزال غيرَ متوفرةٍ على آليات فاعلة، ولا على رأي واعٍ وقدرات نضالية مثمرة.

ومما هو معروف في عالم السياسة والمجتمعات أن الأهداف السياسية تتطلب أحزابا ذات برامج واضحة، ونشاط دائم، ولا تُحققُ هذه النقلةَ الشعوبُ بذاتها؛ لِقَصَرِ نَفَسِها، وغَلَبةِ المطالب الآنية عليها، واقتصار إجماعها على المطالب المعيشية؛ فلا بد لها من أحزاب حقيقية تمثلها.

وقد كانت الثورات العربية طفرةً استَبَقَتْ فيها الشعوبُ (أحزابَها)، ولكن بعد أن أسقطت النُّظم عاد التألق إلى الأحزاب، ولا سيما العريقة منها، والأكثر تنظيما، وقدرة على الحشد والتعبئة، ولذلك كثر، ويكثر اتهام الإخوان المسلمين في مصر بركوب الثورة، والهيمنة عليها.


فالشعوب العربية التي عرفت laquo;الربيعraquo; والتي لا تزال في laquo;شتائهاraquo;، لا تزال مهمشة، ولَكَ أنْ تلحظ غيابَ الشعوب، أو غياب إرادتها في أكثر من مكان عربي مُتعَب...

فلسطينُ مُختزَلةٌ بينَ فتحٍ وحماس:
ففي فلسطين تراجعت laquo;حماسraquo; وlaquo;فتحraquo; في غزة وفي الضفة الغربية، ولكن حماس لا تزال تقبض على السلطات في غزة، وفتح من خلال السلطة، وبالتعاون بينهما، تحوز مراكز القرار في الضفة الغربية.

وقد تتابعت مؤشراتٌ على تشكل قوى، وآراء سياسية أوسع من فتح ومن حماس، وخرجت دعوات قوية تندد بالانقسام، وتغمز من قناة فتح وحماس، وتحملهما المسؤولية عن استمرار الانقسام..لكن سيطرة هذين التنظيمين على السلطة والمال، وقدرتهما التنظيمية، تجعلانهما في الصدارة، وتمطسان المشهد، وكثيرا من الشعب الفلسطيني.

اليمنُ..أيُّ تغييرٍ تَحقَّق؟
وقد تكون اليمن أكثر توضيحا لتغييب إرادة الشعب التي طالبت بتغيير النظام، ولكن تغلبتْ الحلولُ الاسترضائية السطحية، فحكومتُه مشكلةٌ مناصفةً من حزب علي عبد صالح: laquo; المؤتمر الشعبي العامraquo; ومن laquo;اللقاء المشتركraquo; الذي قاد الثورة ضده.

ولا يزال نجل الرئيس السابق، العميد أحمد علي عبد الله صالح، يقود قوات الحرس الجمهوري والقوات الخاصة، وتتشكل قوات الحرس من 31 لواء، والقوات الخاصة من 11 لواء، التي تعد هذه القوات الأكفأ تدريباً في الجيش اليمني، بفعل العناية التي أولاها إياها الرئيس السابق والأموال الكبيرة والامتيازات التي خصصت لها.

ولفتت مصادرlaquo;صحيفة الحياةraquo; إلى أن الرئيس، عبد ربه منصور هادي لم يتمكن بعد من الانتقال إلى دار الرئاسة، لضعف إجراءات الحماية الأمنية، وأنه يحتاج دائماً إلى الدعم والضغط الإقليمي والدولي؛ لإنفاذ ما يتخذه من قرارات، بفعل ما يحدث من معارضةٍ للكثير من القرارات الرئاسية من شركاء التسوية السياسية؛ لنقل السلطة سلمياً في اليمن، وعلى وجه الخصوص الرئيس السابق علي صالح، وبالذات ما يتعلق بالتغييرات التي يجريها هادي في المؤسستين الأمنية والعسكرية، وتطاول قيادات تربطها صلة قرابة بصالح أو موالية له.

قد يقال إن السبب في هذا (النِّصفِ حل) الذي تحقق في اليمن عائدٌ إلى أن الشعب ليس متفقا على تجريد علي عبد صالح ورجاله من السلطة؛ فمعه قسمٌ كبير من الشعب اليمني، لكنا لو دققنا النظر لا نجد هذا (التأييد) تأييدا واعيا وحرا بمعنى الكلمة، فلا رسالة فكرية، أو مشروعا نهضويا حقيقيا يتبناه صالح، ولا هو أنقذ اليمن على مدار عقود حكمه من فقره الشديد، ولا من تخلف أوضاعه، معيشيا، فضلا عن الجوانب العلمية والتقنية، وفي آخر عهده تعمقت الانقسامات في الشعب اليمني، أو بوادرُها القويةُ في الشمال، حيث الحوثيون، وفي الجنوب، حيث المطالبة بالانفصال، فكثير ممن رجوا بقاءَه، إنما جرى تخريب طبيعتهم الحرة، وحَصْرِ نظرتهم من وطنية عامة، إلى نفعية فئوية ضيقة، بارتباطات مصلحية، أكثر منها فكرية.

سورية والفجوة بين الداخل والخارج:
وكذلك في سورية هناك فجوة خطرة بين من يتصدون لتمثيل الشعب السوري في الخارج، ومن يتصدرون المواجهات مع النظام على الأرض السورية، ولكن الاعتراف الدولي والإقليمي والزخم المالي والإعلامي من شأنه أن يَضوي الداخلَ تحت التمثيل الخارجي الذي يحاولُ تطعيمَ نفسِهِ بشرائحَ داخلية.

الشعوب تؤسس لنفسها:
وإذا كان من الطبيعي أنْ لا تتجسدَ الشعوبُ إلا من خلال أحزاب وممثلين؛ لاستحالة الوقوف على الشعب بحقيقته؛ فإنَّ غياب شمس الحياة الفكرية والسياسية لمدة عقود؛ بسبب النظم العسكرية والدكتاتورية- إلا من أحزاب النظام الحاكمة، أو أحزاب ديكورية لا تكاد تستكملُ الحدَّ الأدنى، للترخيص، أحيانا- أسهم في تعميق تلك الفجوة.

لقد نظر الكثيرون من أهل منطقتنا المتعبة والمُضَعْضَعة إلى الانتخابات الأمريكية بنظراتٍ مِلْؤُها الإعجابُ، ومِزاجُها الحسرة، ليس على فحوى الفكر ومقترحات الحلول بالضرورة، ولكن على سلاسة التنافس على الرئاسة ورقيِّه، وكيفَ أنَّ المرشحيَّن اللدودين لم تنشأ بينهما حربٌ تُبيد الأخضرَ واليابس، ولا احتكرا الدولة، ومؤسسات الشعب لصالحهما، ولا، ولا...!!!

مع أنه لا وجهَ للمقارنة بين أمةٍ رسَتْ على مبادىء عامة، وأفكار يرتضيها مجتمعُها، وبين أمةٍ لا تزال في طور إعادة التَّشكُّل، ولا تزال في طور التلفيق بين مكونات متناقضة، كما يحدث الآن حول مشكلة الدستور في مصر، بين مَنْ يريده إسلاميا، محضا، وبين من يريده إسلاميا laquo;واقعياraquo; ومن يريده عَلْمانيا، أو مدنيا، ليبراليا، والمحصلةُ غيابٌ لمعنى الدستور؛ لأن الدستورَ هو القانونُ الأساسي الذي يُعبِّرُ عن هُويَّة الأمة، ويجسِّدُ قيمَها وفكرها.

وإذا كان للشعوب من أثر حادثٍ في أذهان أصحاب القرار فهو في تلافي الأسباب المُلحَّة التي أدى تراكمُها إلى تلك الغَضْبَةِ العامة، ومن أكثر تلك الأسباب حضورا الحقوقُ الطبيعية الأولية من حرية وكرامة وسبل العيش، وهذه فاعلية سلبية، بمعنى أن المطلوب تجنبها، وليست أهدافا مُبادِرة، وخلاّقة.

وحتى هذه الأمور التي يُرجَّح أن تنهمك فيها حكوماتُ laquo;الربيع العربيraquo; قد لا تفي بها، وقد تحاولُ الوفاءَ بالحد الأدنى منها.

ولكن على بَدَهيِّةِ هذه المطالب فإنها إذا تحققت، وأصبح المواطنُ العادي يأمَن على قوته؛ فلا يُبتزُّ به، أو يُخوَّف، ويأمَن على كرامته؛ فلا يُسجن، دون محاكمة، وقضاء عادل نزيه، ومستقل يحفظ كرامتَه، فإنَّ القاعدة الضرورية لحياةٍ سياسيةٍ متعافيةٍ تكونُ قدْ تأسستْ.
[email protected].