زوايا النظر التي تَخْتلف تديمُ الانقسامَ الشعبي والإقليمي والدولي، حول مستقبل سورية السياسي، وكيفية عبور هذه الأزمة الطاحنة، والمنذرة بتوسُّع إقليمي، مباشر، بعد أن شملتْ الأطرافَ الإقليمية، بطريقة غير مباشرة.

ولعل التغليب، لا القطع، هو الصفة التي تطبع الكثيرين من المتأثرين بهذا الصراع، أو المنخرطين فيه.

بالطبع ثمة حكم قاطع عند الأطراف المتحاربة، برغبة كل طرف في استئصال الثاني، ولكن قوى غير قليلة من الشعب، وبعض الدول الإقليمية، والدولية لا تتمتع بهذا اليقين. ولكلٍّ مخاوفُه.

ولسنا بحاجة إلى التذكير بأسباب افتقاد هذه الحالة الاجتماعية والسياسية المعقدة إلى اليقين؛ لتباين المرجعيات الفكرية، أو لتوزُّع قوى الأطراف المتصارعة، أو تقاربها.

قد تكون المعضلة الأساسية أن النظام الأسدي، ومن يواليه، لا يقيم للتغيُّر الذي استجدَّ في سورية الأهمية الكافية، حتى لا نقول إنه يقصيه عن التأثير على نظرته التي لا تزال تستبدُّ بها الحلولُ الأمنية، والحربية، حتى.

فمن المؤكد أن تغيرا جوهريا قد طرأ على المجتمع السوري، ولا بد، مهما كان إيمانُ البعض بــlaquo; مشروع النظامraquo; أن يتوقف عنده، ولو كان التغير عابرا، أو سطحيا، فقد مر باختبار الوقت المُعزَّز بأقسى امتحانات التجذر، وأفدحِها دما؛ فتكشَّفَ عن تجذُّرٍ غير عادي.

وهذا التغير جزء من سياق عربي إنساني تاريخي يوجب تحرر الشعوب، واستعادتها إرادتها من قبضة الوصاية الحزبية، والأمنية، من النُّظُم الأبوية والمتألهة.
الحوار مع الخصم والحكم:
قد يقال إن النظام قد فتح باب الحوار، والكلُّ يعلم أن الحوار لا ينجح في تحقيق الغاية التي نهضت من أجلها جماهير من الشعب السوري، ما دام النظام (الذي هو المشكلة) الطرفَ الأول فيه، وهو الذي يرعاه، ويحدد له سقفه، ولا ضمانات لتنفيذ ما قد يُتفَّق عليه، أصلا، وما هكذا تتغير الدول من طبيعة أمنية، وهيكلية فاسدة، إلى دولة حقيقية تكون تعبيرا عن الإرادة الشعبية الحرة؛ فكيف يكون النظام هو الخصم والحَكَم؟!

ضرورة التغليب:
وإذا حاولنا استشراف آفاق (الحل) فإننا لا ننكر أنه قد فيه أضحى للأطراف الدولية، ومن بعدها الإقليمية، أكثر مما للأطراف المحلية، وإن كان الشعب السوري، أو كثيرون منه هو من فَرَضَ هذا الواقع، فلم يعد بالإمكان تجاهلُه.

ولكن ونظرا لفقدان الحسم الداخلي؛ بسبب تمحور الحالة الصراعية، إلى حد ما، بين طليعة ثائرة، من جهة، ومؤسسة أمنية، وطبقة ضيقة منتفعة، وقسم من الموالين للنظام، من جهة أخرى؛ فإن العامل الخارجي هو الأفعل.

وقد تراوحت المواقف دولية وإقليمية، وتذبذبت، من إعطاء فرصة للنظام إلى مطالبته بالرحيل، والسماح بمرحلة انتقالية.

والأمر المهم هنا هو أن الذي دفع أهمَّ طرف دولي، وهو أمريكي، ثم أهم طرف إقليمي، وهو تركيا، إلى مغادرة موقفيهما السابقين هو معطى واقعي، وليس أسبابا إيديولوجية، أو تآمرية، أو طائفية؛ بدليل أن النظام لم يغير من مواقفه الجوهرية، في الحفاظ على المسافة مع الغرب، وأمريكا، فلا هي بالقطيعة، العدائية، ولا بالتعاون المعلن، والصداقة الصريحة، أو التحالف الراسخ.

وكذلك السياسة الأمريكية لم تكن، وهي في عهدة إدارة أوباما غير الثورية، ولا الصدامية، في وارد مخططات طموحة، للمنطقة والعالم، بل في طور الاحتواء و(الظبظبة) كما كان في العراق، وفي أفغانستان.
وكانت العلاقات الأمريكية، وبالذات من جانب الإدارة الأمريكية تسير مع سورية صوب التحسن المستمر، وتُوِّجتْ بإعادة السفير الأمريكي، إلى دمشق.
وكذلك كانت السياسية التركية المتحالفة مع واشنطن تسير في نفس الركاب، فعقدت أنقرة مع دمشق اتفاقات التعاون الاستراتيجي، واتفق على التواصل بين البلدين دون تأشيرة دخول...

ولكن ماذا تعمل تلك الأطراف الدولية، من أوروبية وأمريكية، ثم تركية، والدول العربية المهمة التي لم تكن مواقفُ دمشق (الممانعة) تمنعها من التنسيق معها، والاعتراف بنفوذها، في مجالها، كما في لبنان، مثلا؟ ماذا تفعل، إذا أصبح هذا النظامُ الفائق الاستبداد في ورطة لا يُرجى خلاصه منها؟ هل تعطيه أمدا مفتوحا ومطلقا في هذه المنطقة البالغة الحساسية؟
هل تضع تلك الأطراف الدولية والإقليمية، والعربية، مصالحها، على كفة هذا العفريت؟ أم هل تعلن وقوفها مع النظام؛ فتخسر فرصة الإمساك ببعض أوراق الحل، من خلال القوى الصاعدة؟
بالطبع كان لا بد من تغليب عنصر الأمل في التغيير، على المخاوف منه.
وهذا هو الطابع الذي يطبع السياسة الأمريكية مع ما يسمى بالربيع العربي، هو الإعلان عن تأييد الشعوب في مطالبها المحقة في الحرية والديمقراطية( مع إدراكها لمقدار التجاوز في مدى انطباق هذه الشعارات على الحالة العربية). ثم دعم القوى المستعدة للانخراط في اللعبة الديمقراطية. بعد امتحانها، عن قرب، وإخضاعها لشروط، وظروف مُقيِّدة.
ودافِعُ واشنطن إلى هذا الخيار إيمانها بأن شعوبا متمتعة بقدر أكبر من الحرية، وقدر أكبر من الحياة الاقتصادية السوية، وقدر أكبر من العدالة الاجتماعية، هي شعوب أقل خطر على أمريكا، ووجودها، ومصالحها، على المدى البعيد.
ولا تستطيع الإدارة الحالية، (وكذلك، لو فاز رومني الجمهوري فلن يختلف جوهريا في هذه الجزئية) أن تنكر مخاطر العناصر التي أغفلتها، من انطواء هذه الشعوب على (جهاديين، راديكاليين) ولكنها تغلِّب الاعتبارات السابقة؛ فالمسألة ترجيحية، واقعية.
والسياسة في مجملها قائمة على الترجيح والحلول الوسط، والمساومات والصفقات، ولذلك قد لا يكون اشتداد المعارك الدائرة الآن في أنحاء سورية علامةً على قرب تصفية طرف للطرف الآخر، بقدر ما قد يكون سعيا من الأطراف المتصارعة، ومن وراءها، على تعظيم المكاسب، والنجاحات الميدانية..
وقد يتجلى هذا، على نحو أوضح، في حال صارت الأمور إلى حلول وسط بين القوى الدولية والإقليمية؛ سواء في طريقة إخراج الحل، أو في استبقاء قدر ما من المصالح، لكل من روسيا، وإيران، أو زيادة نفوذهما في العراق؛ تعويضا عن بعض الخسائر في سورية.
أما التعويل على تجاوز النظام الأزمة، والعودة إلى سابق عزه، فأمر لا تسعفه القرائن، ولا أظن أحدا يُعوِّلُ عليه، والكل يرى( بما فيها إيران وحلفاؤها) أن النظام، وبرغم كل الدعم الذي يقدمونه له، لا يسيطر حتى على دمشق العاصمة، فضلا عن حلب، العاصمة الاقتصادية، أو مناطق الريف، والمناطق الحدودية، وهو يحرق نفسَه حَرْقَ اليائس من حياته، قبل أن يحرق سورية ومقدراتها.
وبعد أن تآكلت هيبة النظام، داخليا، وفقد السيطرة، بل أضحى بقاؤه سببا في الدمار؛ إذ هو آليته الناشطة؛ فإن الشعب قد يتجاوز المرحلة الحرجة، فيتوسعُ الانفضاضُ عنه، والانتفاضُ عليه، كما كانت، القرداحة، مؤخرا.
[email protected].