كشفت تداعيات الفيلم المسيء،laquo; براءة المسلمينraquo; عن نوع من التحديات في وجه العلاقة الأمريكية المصرية، في ظل حكم الإخوان المسلمين.
وجاء وصف الرئيس الأمريكي، بارك أوباما لعلاقة واشنطن بالحكومة المصرية، بأنها لا توصف بالحليف ولا بالعدو، مقلقا للحريصين في مصر، على علاقات أقوى مع واشنطن، والمُعوِّلين على دعمها السياسي والاقتصادي.
وإذا كانت أهدافُ الولايات المتحدة تتعثر في المنطقة العربية والإسلامية؛ بسبب تراكم المشاعر السلبية الناتجة عن دعمها المطلق لإسرائيل، وحربها على أفغانستان والعراق، وكيفية إدارتها للأزمة في سورية، وانتهاكها الذي توسَّع لسيادة اليمن، وغير ذلك..فإن الرئاسة والحكومة المصرية الإخوانية ستكون تحت ضغط، وقلق أكبر للحفاظ على الدعم الأمريكي، السياسي والاقتصادي.
هذا القلق ناجمٌ عن الفجوة بين مرجعيات الرئيس والحكومة، ومحددات خياراتها، من جهة، ومرجعيات الشعب المصري المتباينة، وما يؤثر فيها من الأحداث اليومية، في مصر ومحيطها العربي والإسلامي، من جهة أخرى.
وتقف أمام استقرار العلاقة الأمريكية المصرية جملة من التحديات، منها:

التناقض الفكري:
فمن حيث الجوهر ثمة تناقض بين الفكر الديني الإسلامي الذي تقوم عليه جماعة الإخوان المسلمين، والولايات المتحدة. وتأثير هذا التناقض اليوم أكبر منه، أيام الرئيس السابق حسني مبارك؛ لأن هذه الجماعة التي تدير الحكم، إنما تستند، من حيث القاعدة الانتخابية، إلى هذه المِسْحة الدينية.

هذا التناقض ليس مكانه بالضرورة في تعاطي الرئاسة والحكومة المصرية مع أمريكا، (إذ إن الخطاب الديني للإخوان لم يمنع مرسي وحكومته من جملة مواقف سياسية واقتصادية كان يُظن أنها ستحرجهم). ولكنه في محاولة التجسير بين الخطاب الفكري والدَّعَوي الذي بُني أفراد الإخوان عليه، والجماهير المتأثرة بهذا الخطاب، وبين قدرات القيادة السياسية وأولوياتها.
وهذا ما حاوله الرئيس محمد مرسي، في تعليقه على الفيلم المسيء، والهجوم على السفارة الأمريكية في القاهرة، وما لابَسه من إنزال العلم الأمريكي، ورفع العلم الذي تتبناه laquo;القاعدةraquo;. وهو ما يُفترض أن تركز عليه الحكومة المصرية، عبر منابرها، وإعلامها: بخطاب يحاول التوليف بين الديني والسياسي. كما يُتوقع أن تسهم فيه جماعة الإخوان برموزها (المعتدلة) في مواجهة الأصوات التقليدية التي لا يزال يتغلب عليها الخطاب الدَّعوي.

التحدي الشعبي:
لكن ما كان نظام مبارك يفعله، غيرَ هيّابٍ من الابتعاد عن نبض الشارع المصري والعربي، لن يكون في مقدور نظام يزعم أنه حصيلة الثورة المصرية، والربيع العربي، أن يفعله بنفس الأريحية، بعد صعود صوت الشعوب، ولا سيما في الأوقات التي تميل فيها العلاقة الأمريكية بالمنطقة العربية والإسلامية إلى التصعيد، عسكريا، أو أمنيا، أو حين تثير جهاتٌ متطرفة، وغير منسجمة مع التوجهات والاستراتيجيات الأمريكية مواطنَ حساسة في أمر المقدَّس الديني.
وهنا، وفي الوجدان الشعبي، تُحيل، علاقة أمريكا بإسرائيل إلى مقارناتٍ لا تساعد: فأيُّ تشكيك بـlaquo; المحرقةraquo; يُمنع، ويجرِّمه القانونُ الأمريكي، ولكن حرية التعبير لا تزال تسمح بأي انتهاك للمقدس الإسلامي. ولا تلتفت الشعوب، إلى أن تلك الإساءات قد تنسحب على المسيح، عيسى عليه السلام، ومقدسات غالبية الأمريكيين.
ويتعزز ذلك بما تنتجه إسرائيل، مباشرة، من اعتداءات وتهديدات، أو ما ينتجه محسوبون عليها، ولو أنها لا تعلن دعمها لهم، ويستثير هذا التحالف الأمريكي الإسرائيلي العميق بوساطة الاستفزازات اليومية السطحية، ذلك التلازم الذهني بين أمريكا وإسرائيل؛ فتقترب أمريكا في الوجدان الشعبي، من إسرائيل، وتضطر لتلقِّى الضربات عنها.
هذا لا يعني أن واشنطن لا تنتج أسبابا ذاتية؛ لإنماء مشاعر الكراهية ضدها، وأنها لا تواجه تحديا مقلقا عن صورتها في العالم العربي والإسلامي، وهذا ما حاولت وزيرة الخارجية الأمريكية، هيلاري كلينتون، معالجتَه، في تعليقها على مقتل السفير الأمريكي في بنغازي، إذ حاولت حصر هذا العداء في فئة صغيرة لا تمثل الشعب الليبي، وفي نفس الوقت، كشفت عن انفعالها، واستغرابها من أن تلقى ذلك، في بلد ساعدته بلادُها في ثورته، وحمته من خطر القذافي!
لكن هذا التناقص في صدقية أمريكا، لا تعبر عنه فقط أعمالٌ انفعالية محدودة، ولو كانت خطيرة، إنما تدل عليه إحصاءات موثوقة، فتحت عنوان الولايات المتحدة فقدت ثقة العالم بأكمله نشرت صحيفة الغارديان البريطانية نتائج استطلاع للرأي يشير إلى انخفاض التأثير الأمريكي على الساحة الدولية يعود إلى ضعف الثقة في النوايا والدوافع التي تحرك الولايات المتحدة نحو القضايا الدولية. وتقول الصحيفة إن المثير في هذا الاستطلاع هو أن هذه المشاعر السلبية تجاه أمريكا لم تعد تقتصر على منطقة الشرق الأوسط، بل اتسعت لتشمل أوروبا، ومنطقة جنوب آسيا. ففي باكستان، مثلا، بلغت نسبة عدم الثقة في الولايات المتحدة 78%. أما في المنطقة العربية والتي ترتفع فيها المشاعر السلبية، ضد أمريكا، بحسب الصحيفة فقد قال 39% فقط من المشاركين في الاستطلاع إنهم ليس لديهم ذرة ثقة بها.
فمصر، وهي كبرى الدول العربية، وأهمها، والموصوفة بأكثر البلدان العربية إسلاميةً، في المجتمع والمظاهر والمشاعر، لا يمكن أن تَعزِل نفسها عن هذا المحيط والتفاعلات الدينية السياسية.

التحدي الاقتصادي:
ولا يخفى أن هذه الأحداث التي تستثير المقدس، من شأنها أن تفعل، على المدى البعيد، لكنها لا تتفرد، ولا تبقى مشتعلة طويلا، فللحياة اليومية، ومتطلباتها آثارٌ أبقى، ولا سيما بعد أن تُحتوى هذه الأزمة، وتُطوى صفحتها، كما طويت صفحاتٌ أخرى سبقتها...إلى أن تُوقِدَ جهة أخرى للأزمة جمرةً جديدة.
هذه الحياة اليومية، ولا سيما لجموع المصريين، الذين يغلب عليهم الفقر والبطالة وسوء الخدمات الصحية والتعليمية، ربما تبقى الرهان الأكبر لحكومة مرسي، وحكم الإخوان.
ولا يزال الدعم الأمريكي والغربي، على الصعيد الاقتصادي، قائما، وإن كان مرهونا، على الصعيد السياسي بجملة أمور، منها أداء الحكومة المصرية، في مواجهة laquo;الجهاديينraquo; في سيناء، والتصدي للمناهضين الإسلاميين الذين هاجموا السفارة الأمريكية، وقاموا بأعمال رمزية تراها واشنطن بالغة الخطورة، بل تفوق في خطورتها مقتل سفيرها في ليبيا.
[email protected].