ملصقاتٌ عنصريةٌ في محطاتِ المترو في نيويورك تصفُ laquo;المتشددينَ الإسلاميينَraquo; بأنهم همجيون، ووزيرُ الداخليةِ الفرنسي، والشؤون الدينية، مانويل فالس، يقول:laquo; لن أترددَ في طردِ الذين يعلنونَ انتماءَهم إلى الإسلام، لكنهم يشكلونَ خطراً كبيراً على النظامِ العام، والذينَ من بين الأجانبِ في بلادنا لا يحترمون قوانينَنا وقيمَناraquo;.
المثلُ يقول : laquo; ما زادَ عن حدِّهِ انقلبَ إلى ضدِّهraquo;.
المبالغةُ في ردةِ فعل بعض الأوساط الغربية لا تُسهمُ في احتواء التداعيات، بل قد توسعُها، وتعمقُها؛ ذلك أنَّ الغربَ، وحتى حكوماتِه ليستْ بريئةً من سياساتٍ، ومواقفَ صارخةِ الازدواجية.
وهذا قد يدفعُ حتى بعضَ laquo; المعتدلينraquo; إلى laquo;تعديلraquo; مواقفِهم؛ حين يستشعرُ أولئك، مثلا، فرقا واضحا بين التعامل مع انتهاكاتٍ شخصية، ومقدساتٍ دينية، كقرار القضاءِ الفرنسي منعَ مجلة quot;كلوزيرquot; من بيع أو إعادة نشر صور الأميرة كيت، عارية الصدر.
بما يعني أن لحرية التعبير والنشر حدودا، تقفُ عند كرامةِ الهيئاتِ والأشخاص.
كما يُعتبر إنكارُ الهولوكوست مخالفةً للقانون في كل من ألمانيا وفرنسا وبلجيكا بولندا وأستراليا ولوكسمبورغ وإسبانيا والبرتغال ورومانيا وسويسرا وإسرائيل.
هذا في الوقت الذي لا يُجرِّمُ فيه العالمُ الغربي الإساءةَ إلى الأديان، ولا تنجح الأممُ المتحدة حتى الآن، في سن تشريع للحد من هذه الظاهرة التي باتت تهدد أمنَ المجتمعات، وقد تؤججُ الصراعاتِ، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط المحتقنة، وفي العالم الإسلامي.
تلك الملصقات، مثلا، والتهديد الفرنسي، مع اختلاف مَنْ تمثلهما، تأتي في دائرة ردة الفعل، على ردود قام، وقد يقوم بها، مسلمون على الفيلم المسيء والرسومات؛ فهل تذكي دائرة من الردود الدينيةِ المظهر والسياسيةِ الدوافع؟
قد يكون في جديد هذه التداعيات توسُّعُ تأثيرِها، إذ لاحظنا مثقفين عربا تنقلب مواقفُهم؛ بسبب الاستفزاز والعنصرية، أو ازدواجية التعامل الرسمي الغربي.

ويمكن أن ننظر في حالة الصحفية المصرية، منى الطحاوي التي اعتقلتها السلطاتُ الأمريكية، مؤخرا، على خلفية قيامِها بطمس إعلانٍ يهاجم الإسلاميين، ويصفهم بالهمجيين في إحدى عربات مترو الأنفاق في نيويورك.
وأكدت الطحاوى أنها ستواجه التهم المنسوبة إليها في المحكمة؛ لأنها فخورة بما فعلت، وغير نادمة على الإطلاق، وقالت إن ما فعلته يندرج تحت حرية الرأي والتعبير دون اللجوء للعنف، ملمحة إلى تاريخ النضال السلمي الأمريكي، ضد التمييز العنصري.
واللافت هو تحوُّلُ موقفِها، حيث أنها سبقتْ، واتَّهمتْ جامعةَ ييل بـquot;الجبنquot; في إحدى مقالاتها بجريدة quot;واشنطن بوستquot; لتراجعها وخوفها من نشر صور مسيئة للنبي.
ولا يُتوقع أن تكون هذه حالة فردية؛ ذلك أنَّه يصعب، في أحيان كثيرة، الفصلُ بين المرء ومقدساته، وثقافة بلده، حتى لو كان ذلك العربي مدنيَّ الشخصية، فضلا عن كون الثقافة المدنية تفرق بين الحوارات الدينية، والفكرية، وأساليب الشتم والتحريض، والاستفزاز.
وربما يحق لأي عربي، أو مسلم عادي أن يخشى من امتداد تلك الصورة الكريهة، ولا سيما عند الجماهير الغربية، إلى كل العرب والمسلمين.


تفاعل السياسي مع الثقافي:
في عالم اليوم الذي تتداخل فيه القضايا، كما تتفاعل وسائلُ الإعلام بسرعة واتساع، تزداد المشكلات تعقيدا، ويصعب فصلُ أثر السياسة عن الرؤية الثقافية، والنظرة إلى الآخر، كما يصعب عزل المؤثر الثقافي عن القرار السياسي، وإن كانت نسبة تأثير السياسي في الثقافي أكبر، على المدى القريب.

قد لا يذهب المرء مع تحليلات صموئيل هنتجتون في تضخيم أثر العامل الثقافي والحضاري في تأجيج الصراعات، ولكن الاختلاف الثقافي، حين يُحاط بحصيلة وافرة من التراكمات السياسية السلبية، سيغدو أكثر خطورة.

هنا يقفز إلى الذاكرة العربية، التعاملُ الغربي مع القضية الفلسطينية التي تسرَّب من المرشح الجمهوري، ميت رومني، أنه لا يرى لها حلا.
وحيث لا يُتوقع أن يتوفر الدعمُ الغربي الكافي لإنجاح مساعي السلطة الفلسطينية، في نيل عضويةٍ غير كاملة، لــlaquo;فلسطينraquo; في الأمم المتحدة؛ ما يعني حرمانَ الفلسطينيين، (بعد أن أصبح التفاوض مع حكومة بنيامين نتنياهو بلا جدوى) من فرصة قانونية لوقف تغوُّل الاحتلال، والاستيطان.

كما ينزلق إلى الذاكرة الدعمُ الغربي لحكومات العالم العربي التي لم تفلح في توفير الحياة الممكنة، فضلا، عن الكريمة؛ ما اضطر الكثيرين من مواطنيها إلى الهجرة إلى الغرب، كفرنسا، وغيرها؛ ليصبحوا تحت رحمة قوانينها التي لا تخلو من تعالٍ، أو انتقاص لرموزهم، كما في مسألة الحجاب، مثلا.
أما عن حجم العامل الثقافي، والديني، في الصراعات، فإنه واحدٌ من العوامل، وربما هو أقل من سواه، إذا عَمِلَ وحدَه، بمعزل عن المثيرات السياسية، ففي العالم العربي تتقدم، (وهنا الحديث عن الحالة الطبيعية الدائمية) العواملُ المعيشية اليومية.
كما أن الاحتجاجات التي ردت على الفيلم المسيء كانت متواضعةَ الحجم، بالقياس إلى تلك التي أخرجها laquo;الربيعُ العربيraquo; وِفَاقا لرأي الكاتب الأمريكي، مارك لينش، الذي قال في مقاله:laquo; تظاهرات الغوغاء لم تطح إرث الربيع العربيraquo;: laquo; تظاهرات الاحتجاج على شريط يوتيوب صغيرة الحجم قياساً إلى موجة التظاهرات المنادية بالديموقراطية والتظاهرات السياسية الشائعة اليوم في عدد من الدول العربية. وساهمت، من غير شك، حادثة قتل (السفير الأميركي لدى ليبيا) كريس ستيفنز وزملائه وصور رفع علم laquo;القاعدةraquo; على السفارة الأميركية، في تضخيم حجم التظاهراتraquo;.

وكذلك في الغرب، حيث الاهتمامات الاقتصادية هي الأكثر تأثيرا، في توجهات الشعوب، باستثناء أصحاب الأجندات الخاصة.

الغرب بين الاعتبارات المصلحية والثقافية:

ربما لاحظ المتابعون محاولاتِ الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، الإمساك بالعصا من الوسط، بمحاولاته التوفيقية بين القيم الأمريكية التي تصون حرية الرأي، وبين تجنب استفزاز المسلمين، والعرب، وقد اقترب من الاعتبار الثاني، حين طلبت إدارتُه من شركة غوغل التي تمتلك موقع يوتيوب حذفَ المقطع الموضوع من الفيلم على الموقع، إلا أنها رفضت حذفَه قائلة إنَّ الفيلم لم ينتهك قواعدَها.
كما يصب سَجنُ منتج الفيلم المسيء، نيقولا باسيلي، (ولو لسبب لا يعود مباشرة، إلى إنتاجه الفيلم) في مساعي التهدئة الأمريكية.
ولم تقتصر هذه المراعاة للجانب السياسي والأمني على واشنطن، فقد تعدتها إلى باريس، وموسكو، إذ حرص وزير الداخلية الفرنسي، مانويل فالس، على عزل المتشددين عن سائر المسلمين في فرنسا، فـــlaquo; أكد أن الإسلام ليس عنصرياً ولا متطرفاraquo; ونوه بــlaquo;بحكمة مسؤولي الديانة الإسلامية الذين دعوا المسلمين إلى الهدوء وبـالبصيرة والنضج اللذين تحلى بهما مسلمو فرنساrdquo; بعد بث الفيلم المسيء للإسلام والرسوم الكاريكاتورية المسيئة.

وقررت السلطاتُ الروسية حجبَ الفيلم في شمال القوقاز؛ خشيةَ حصول ردود فعل في المنطقة التي تشهد تمردا إسلاميا.
الخشيةُ أن تطفو على السطوح تلك الأعمالُ المفلسة، وردود الأفعال الهروبية، أو اليائسة؛ فأية حضارة، إنما تحقق تأثيرا إنسانيا بمقدار ما تملك من إشعاع حضاري، وأفكار تتجاوب مع حاجات الإنسان الأصيلة، والمتجددة، وفي هذا المظهر الغني، فليتنافس المتنافسون.